فصل: باب مَتَى يَحِلُّ فِطْرُ الصَّائِمِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


باب الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ

وَقَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ‏:‏ إِنْ نَظَرَ فَأَمْنَى يُتِمُّ صَوْمَهُ‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ قَالَتْ‏:‏ ‏(‏إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيُقَبِّلُ بَعْضَ أَزْوَاجِهِ وَهُوَ صَائِمٌ، ثُمَّ ضَحِكَتْ‏)‏‏.‏

- فيه‏:‏ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ‏:‏ ‏(‏بَيْنَا أَنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، عليه السلام، فِى الْخَمِيلَةِ؛ إِذْ حِضْتُ فَانْسَلَلْتُ، فَأَخَذْتُ ثِيَابَ حِيضَتِى، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَا لَكِ أَنَفِسْتِ‏)‏‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ نَعَمْ، فَدَخَلْتُ مَعَهُ فِى الْخَمِيلَةِ، وَكَانَتْ هِىَ وَرَسُولُ اللَّهِ يَغْتَسِلانِ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ‏)‏‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ اختلف العلماء فى القبلة للصائم، فرخص فيها جماعة، روى ذلك عن عمر بن الخطاب، وأبى هريرة، وابن عباس، وعائشة، وبه قال عطاء، والشعبى، والحسن، وهو قول أحمد، وإسحاق، وقال ابن مسعود‏:‏ إن قبل وهو صائم صام يومًا مكانه، قال الثورى‏:‏ وهذا لا يؤخذ به، وكره ابن عمر القبلة للصائم، ونهى عنها، وقال عروة‏:‏ لم أر القبلة للصائم تدعو إلى خير، وذكر الطحاوى عن شعبة، عن عمران بن مسلم، عن زاذان، عن عمر بن الخطاب قال‏:‏ لأن أعض على جمرة أحب إلىّ من أن أقبل وأنا صائم، وروى الثورى عن عمران بن مسلم، عن زاذان، عن ابن عمر مثله، وذكر عن سعيد بن المسيب، قال‏:‏ الذى يقبل امرأته وهو صائم ينقض صومه، وكره مالك القبلة للشيخ والشاب، وأخذ بقول ابن عمر، وأباحتها فرقة للشيخ وحظرتها على الشاب، روى ذلك عن ابن عباس، ورواه مورق عن ابن عمر، وهو قول أبى حنيفة، والثورى، والأوزاعى، والشافعى‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ فأما ما روى عن ابن مسعود فقد روى عنه خلافه، روى إسرائيل عن طارق، عن حكيم بن جابر، عن ابن مسعود أنه كان يباشر امرأته وهو صائم، وما ذكره من قول سعيد أنه ينقض صومه فإن ما روى عن رسول الله أنه كان يقبل وهو صائم، أولى من قول سعيد، فلو قال قائل‏:‏ إنما خص به رسول الله، ألا ترى قول عائشة‏:‏ ‏(‏وأيكم كان أملك لإربه من رسول الله‏)‏ قيل‏:‏ إن قولها هذا إنما هو على أنها لا تأمن عليهم، ولا يأمنون على أنفسهم ما كان رسول الله يأمن على نفسه، لأنه محفوظ، والدليل على أن القبلة عندها لا تفظر الصائك ما قد رويناه عنها أنها قالت‏:‏ ‏(‏ربما قبلنى رسول الله وباشرنى وهو صائم، وأما أنتم فلا بأس للشيخ الكبير الضعيف‏)‏، رواه عمرو بن حريث، عن الشعبى، عن مسروق، عنها، أرادت به أنه لا يخاف من إربه، فدل ذلك أن من لم يخف من القبلة شيئًا وأمن على نفسه أنها له مباحة، وقالت مرة أخرى حين سئلت عن القبلة للصائم، فقالت جوابًا لذلك‏:‏ ‏(‏كأن رسول الله يقبل وهو صائم‏)‏، فلو كان حكم رسول الله عندها فى ذلك بخلاف حكم غيره من الناس، لما كان ما علمته من فعل رسول الله جوابًا لما سئلت عنه من فعل غيره‏.‏

ويبين ذلك ما رواه مالك عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار‏:‏ أن رجلا قبل امرأته وهو صائم، فوجد من ذلك وجدًا شديدًا، فأرسل امرأته تسأل له عن ذلك، فدخلت على أم سلمة زوج النبى فذكرت ذلك لها، فأخبرتها أم سلمة أن رسول الله كان يقبل وهو صائم، فرجعت فأخبرت ذلك زوجها، فزاده شرا، وقال‏:‏ لسنا مثل رسول الله، يحل الله لرسوله ما شاء، ثم رجعت المرأة إلى أم سلمة فوجدت رسول الله فأخبرته، فغضب رسول الله، وقال‏:‏ والله إنى لأتقاكم لله، وأعلمكم بحدوده‏)‏‏.‏

فدل هذا المعنى استواء حكم رسول الله وسائر الناس فى حكم القبلة إّا لم يكن معها الخوف على ما بعدها مما تدعو إليه، ولهذا المعنى كرهها من كرهها، وقال‏:‏ لا أراها تدعو إلى خير، يريد إذا لم يأمن على نفسه، ليس لأنها حرام عليه، ولكن لا يأمن إذا فعلها أن تغلبه شهوته فيقع فيما يحرم عليه، فإذا ارتفع هذا المعنى كانت مباحة‏.‏

وقال أبو حنيفة والثورى والأوزاعى والشافعى‏:‏ إن من قبل فأمذى فلا قضاء عليه، وإن نظر فأمنى لم ينقض صومه، وإن قبل أو لمس فأمنى أفطر ولا كفارة عليه، لأن الكفارة عندهم لا تجب إلا على من أولج فأنزل، وقال مالك‏:‏ إن قبل فأنزل فعليه القضاء والكفارة، وكذلك إن نظر فتابع النظر، لأن الإنزال هو المبتغى من الجماع، وسواء أكان بإيلاج أو غيره، قال‏:‏ فإن قبل فأمذى، أو نظر فأمذى فعليه القضاء، ولا كفارة عليه ولا قضاء فى ذلك عند الكوفيين، والأوزاعى، والشافعى على ما تقدم فى الباب قبل هذا‏.‏

باب اغْتِسَالِ الصَّائِمِ

وَبَلَّ ابْنُ عُمَرَ ثَوْبًا فَأَلْقَاهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ صَائِمٌ، وَدَخَلَ الشَّعْبِىُّ الْحَمَّامَ وَهُوَ صَائِمٌ‏.‏

وقال ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ لا بَأْسَ أَنْ يَتَطَعَّمَ الْقِدْرَ أَوِ الشَّيْءَ‏.‏

وقال الْحَسَنُ‏:‏ لا بَأْسَ بِالْمَضْمَضَةِ وَالتَّبَرُّدِ لِلصَّائِمِ‏.‏

وقال ابْنُ مَسْعُودٍ‏:‏ إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلْيُصْبِحْ دَهِينًا مُتَرَجِّلا‏.‏

وقال أَنَسٌ‏:‏ إِنَّ لِى أَبْزَنَ أَتَقَحَّمُ فِيهِ وَأَنَا صَائِمٌ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ‏:‏ يَسْتَاكُ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ‏.‏

وقال ابْنُ سِيرِينَ‏:‏ لا بَأْسَ بِالسِّوَاكِ الرَّطْبِ، قِيلَ لَهُ طَعْمٌ قَالَ‏:‏ وَالْمَاءُ لَهُ طَعْمٌ، وَأَنْتَ تتمَضْمِضُ بِهِ، وَلَمْ يَرَ أَنَسٌ وَالْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ بِالْكُحْلِ لِلصَّائِمِ بَأْسًا‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةُ وأُمِّ سَلَمَةَ‏:‏ ‏(‏كَانَ النَّبِىُّ، عليه السلام، يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ فِى رَمَضَانَ جنبًا مِنْ غَيْرِ حُلْمٍ، فَيَغْتَسِلُ وَيَصُومُ‏)‏‏.‏

وذكر الطحاوى عن الكوفيين أن الصائم لا يفطره الانغماس فى الماء، ولم يذكروا كراهية، وقال الليث والشافعى‏:‏ لا بأس به، وذكر الطحاوى عن مالك أنه كرهه، وروى ابن القاسم عن مالك فى المجموعة أنه لا بأس أن يغتسل الصائم ويتمضمض من العطش خلاف ما ذكره الطحاوى‏.‏

وقال الحسن بن حى‏:‏ يكره الانغماس فيه إذا صب على رأسه وبدنه، ولا يكره أن يستنقع فيه، وحديث عائشة وأم سلمة حجة على من كره ذلك، وروى مالك‏:‏ عن سمى مولى أبى بكر، عن أبى بكر بن عبد الرحمن، عن بعض أصحاب النبى، عليه السلام‏:‏ ‏(‏أن النبى خرج فى رمضان يوم الفتح صائمًا، فلما أتى العرج شق عليه الصيام، فكان يصب على رأسه الماء وهو صائم‏)‏‏.‏

وقال الحسن‏:‏ رأيت عثمان بن أبى العاص بعرفة وهو صائم يمج الماء ويصب على رأسه‏.‏

وأما ذوق الطعام للصائم، فقال الكوفيون‏:‏ إذا لم يدخل حلقه لا يفطره وصومه تام، وهو قول الأوزاعى، وقال مالك‏:‏ أكرهه ولا يفطره إن لم يدخل حلقه، وهو قول الشافعى، وقال ابن عباس‏:‏ لا بأس أن تمضغ الصائمة لصبيها الطعام، وهو قول الحسن البصرى، والنخعى، وكره ذلك مالك، والثورى، والكوفيون، وقال الكوفيون‏:‏ إلا لمن لم تجد بدا من ذلك‏.‏

وأما الدهن للصائم فاستحبته طائفة، روى عن قتادة أنه قال‏:‏ يستحب للصائم أن يدهن حتى تذهب عنه غبرة الصوم، وأحازة الكوفيون والشافعى، وقال‏:‏ لا بأس أن يدهن الصائم شاربه، وممن أجازة الدهن للصائم مطرف‏:‏ وابن عبد الحكم وأصبغ، ذكره ابن حبيب، وكرهه ابن أبى ليلى‏.‏

واختلفوا فى الكحل للصائم، فرخص فيه ابن أبى أوفى، وعطاء، والشعبى، والزهرى، وهو قول أبى حنيفة، والأوزاعى، والليث، والشافعى، وأبى ثور، وحكاه ابن حبيب عن مطرف، وابن عبد الحكم، وأصبغ، وقال ابن الماجشون‏:‏ لا بأس بالكحل بالإثمد للصائم، وليس ذلك مما يصام منه، ولو كان ذلك لذكروه كما ذكروا فى المحرم، وأما الكحل الذى يعمل بالعقاقير، ويوجد طعمه، ويخرق إلى الجوف فأكرهه، والإثمد لا يوجد طعمه وإن كان ممسكًا، وإنما يوجد من المسك طعم ريحه لا طعم ذوقه‏.‏

ورخص فى الإثمد قتادة، وقال ابن أبى ليلى وابن شبرمة‏:‏ إن اكتحل الصائم قضى يومًا مكانه، وكرهه الثورى وأحمد وإسحاق، وفى المدونة‏:‏ لا يكتحل الصائم، فإن اكتحل بإثمد أو صبر أو غيره فوصل إلى حلقه يقضى يومًا مكانه، وكره قتادة الاكتحال بالصبر، وأجازه عطاء والنخعى، وسيأتى اختلاف العلماء فى السواك الرطب واليابس فى بابه بعد هذا، إن شاء الله، ويأتى اختلافهم فى المضمضة والاستنشاق للصائم إذا دخل الماء إلى حلقه فى بابه بعد هذا إن شاء الله‏.‏

باب الصَّائِمِ إِذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا

قَالَ عَطَاءٌ‏:‏ إِنِ اسْتَنْثَرَ، فَدَخَلَ الْمَاءُ فِى حَلْقِهِ فلا بَأْسَ إِنْ لَمْ يَمْلِكْ‏.‏

وقال الْحَسَنُ‏:‏ إِنْ دَخَلَ حَلْقَهُ الذُّبَابُ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ‏.‏

وقال الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ‏:‏ إِنْ جَامَعَ نَاسِيًا فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىِّ، عليه السلام‏:‏ ‏(‏إِذَا نَسِىَ فَأَكَلَ وَشَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ‏)‏‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ اختلف العلماء فى الصائم إذا أكل أو شرب ناسيًا، فقالت طائفة‏:‏ فلا شىء عليه، روينا هذا القول عن على، وابن عمر، وأبى هريرة، وعطاء، وطاوس، والنخعى، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، والثورى، والأوزاعى، والشافعى، وأبو ثور، وأحمد، وإسحاق واحتجوا بهذا الحديث وقالت طائفة‏:‏ عليه القضاء، هذا قول ربيعة، ومالك، وسعيد بن عبد العزيز، واحتج له ربيعة فقال‏:‏ ما نعلم ناسيًا لشىء من حقوق الله إلا وهو عائد له‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ والأكل مناف للصوم، وقد تقرر أنه لو أكل وعنده أن الفجر لم يطلع، وكان قد طلع إن عليه القضاء، كذلك إذا وقع فى خلاف الصوم، ولا فرق بين أن يظن أنه يأكل قبل الفجر أو يظن أنه يأكل فى يوم من شعبان أو شوال أن عليه القضاء، واحتج مالك لذلك بقول عمر بن الخطاب‏:‏ الخطب يسير وقد اجتهدنا‏.‏

قال مالك‏:‏ ولا شك أن عمر قضى ذلك اليوم، وذكره ابن وهب، قال ابن المنذر‏:‏ وحجة القول الأولقوله عليه السلام فىلا من أكل أو شرب ناسيًا أنه يتم صومه، وغير جائز أن يأمر من هذه صفته أن يتم صومه فيتمه ويكون غير تام، هذا يستحيل وإذا أتمه فهو صوم تام ولا شىء على من صومه تام‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فعارض هذا أهل المقالة الثانية وقالوا‏:‏ أما قوله‏:‏ ‏(‏فليتم صومه‏)‏، فمعناه أنه لما كان قبل أكله داخلا فى صوم جاز أن يقال له‏:‏ تتم صومك الذى كنت دخلت فيه، وعليك القضاء، لأنك مفطر قاله ابن القصار، وقال المهلب‏:‏ معنى قوله ‏(‏فإن الله أطعمه وسقاه‏)‏، إثبات عذر الناسى وعلة لسقوط الكفارة عنه، وأن النسيان، لا يرفع نية الصوم التى بيتها، فأمره عليه السلام بإتمام العمل على النية، وأسقط عنه الكفارة، لأنه ليس كالمنتهك العامد، ووجب عليه القضاء بنص كتاب الله تعالى وهو قوله‏:‏ ‏(‏فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏، فإن قيل‏:‏ إنه لم ينقل فى الحديث القضاء، فلا قضاء عليه، قيل‏:‏ يجوز ألا يشكل القضاء على السائل أو ذكره، ولم ينقل كما لم ينقل فى حديث الذى وطئ أهله فى رمضان القضاء عليه ولا على امرأته، فلا تعلق لهم بهذا‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ وليس معكم أن قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏فإن الله أطعمه وسقاه‏)‏ كان فى رمضان، فيحمل الحديث على صوم التطوع، وأنه يكون بذلك مفطرًا، ولا قضاء عليه‏.‏

وكذلك اختلفوا فيمن جامع ناسيًا فى شهر رمضان، فقالت طائفة‏:‏ لا شىء عليه‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ روينا هذا عن الحسن، ومجاهد، وبه قال الثورى، وأبو حنيفة، والشافعى، وإسحاق، وأبو ثور، وقالت طائفة‏:‏ عليه القضاء، روينا هذا عن ابن عباس، وعطاء، وهو قول مالك والليث، والأوزاعى، وفيه قول ثالث‏:‏ وهو أن عليه القضاء والكفارة، وهو قول ابن الماجشون، وأحمد بن حنبل، ورواية ابن نافع عن مالك، واحتج ابن الماجشون بأن الذى قال للنبى، عليه السلام‏:‏ ‏(‏وطئت أهلى‏)‏ لم يذكر عمدًا ولا سهوًا، فالناسى والعامد سواء، واختاره ابن حبيب‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ واستدلاله بهذا على وجوب الكفارة خطأ، لأنه عليه السلام، أوجب عليه الكفارة لعمده، ألا ترى أنه قال له‏:‏ ‏(‏هلكت‏)‏ فلحقه المأثم، والناسى لا يكون هالكًا، لأنه لا مأثم عليه، وهذا خلاف الإجماع فلا يعتد به، وكفارة رمضان إنما تتعلق بالمأثم، بدلالة سقوطها عن الحائض والمسافر والمريض، والناسى أعذر منهم‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ فى قول الرجل للنبى، عليه السلام‏:‏ ‏(‏احترقت‏)‏، وترك النبى إنكار ذلك عليه أبين البيان أنه كان عامدًا، لإجماعهم على سقوط المأثم عمن جامع ناسيًا، ويدل على ذلك قول الرسول‏:‏ ‏(‏أين المحترق‏؟‏‏)‏ وغير جائز أن توجب السنة على من وطئ ناسيًا مأثمًا، وإجماع الناس على ارتفاع المأثم عنه‏.‏

وأما الذباب يدخل حلق الصائم، فروى عن ابن عباس أنه لا شىء عليه، وهو قول مالك، وأبى حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ ولم يحفظ عن غيرهم خلافهم‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ سبق الذباب إلى الحلق لا يمكن التحرز منه، وهو كغبار الطريق والدقيق فلم يكلفه‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وهذا يلزم مالكًا حين أوجب على المرأة توطأ مستكرهة القضاء والكفارة ويلزم من أوجب عليها القضاء، ومن أسقط القضاء عمن دخل حلقه الذباب مغلوبًا عليه لزمه أن يقول مثله فى المرأة التى يستكرهها زوجها أو يأتيها وهى نائمة‏.‏

باب السِوَاكِ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ لِلصَّائِمِ

وَيُذْكَرُ عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ‏:‏ ‏(‏رَأَيْتُ النَّبِىَّ، عليه السلام، يَسْتَاكُ وَهُوَ صَائِمٌ مَا لا أُحْصِى، أَوْ أَعُدُّ‏.‏

وقالتْ عَائِشَةُ عَنِ النَّبِىِّ‏:‏ ‏(‏السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ، مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ‏)‏‏.‏

وقال عَطَاءٌ وَقَتَادَةُ‏:‏ يَبْتَلِعُ رِيقَهُ‏.‏

وقال أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِى لأمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ‏)‏، وَيُرْوَى نَحْوُهُ عَنْ جَابِرٍ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ عَنِ النَّبِىِّ، عليه السلام، وَلَمْ يَخُصَّ الصَّائِمَ مِنْ غَيْرِهِ‏.‏

- وفيه‏:‏ ‏(‏عُثْمَانَ أَنَّه تَوَضَّأَ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ ثَلاثًا، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ‏)‏ الحديث‏.‏

واختلف العلماء فى السواك للصائم فى كل وقت من النهار، فأجازه الجمهور، قال مالك أنه سمع أهل العلم لا يكرهون السواك للصائم فى أى ساعات النهار شاء غدوة وعشية، ولم يسمع أحدًا من أهل العلم يكره ذلك ولا ينهى عنه، وقد روى ذلك عن عائشة، وابن عمر، وابن عباس، وبه قال النخعى، وابن سيرين، وعروة، والحسن، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه، وقال عطاء‏:‏ أكرهه بعد الزوال إلى آخر النهار من أجل الحديث فى خلوف فم الصائم، وهو قول مجاهد، وإليهخ ذهب الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وحجة القول الأول ما نزعه البخارى من قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لولا أن أشق على أمتى لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء‏)‏، وهذا يقتضى إباحته فى كل وقت، وعلى كل حال، لأنه لم يخص الصائم من غيره، وهذا احتجاج حسن لا مزيد عليه‏.‏

واحتج ابن المنذر بهذا الحديث فى إباحة السواك للمحرم، وقال‏:‏ هو داخل فى عموم هذا الحديث، قال‏:‏ ولا أعلم أحدًا من أهل العلم منع المحرم من السواك واختلفوا فى السواك بالعود الرطب للصائم، فرخصت فيه طائفة، روى ذلك عن ابن عمر، وإبراهيم، وابن سيرين، وعروة، وهو قول أبى حنيفة، والثورى، والأوزاعى، والشافعى، وأبى ثور، وكرهت طائفة السواك الرطب، روى ذلك عن الشعبى، وقتادة، والحكم، وهو قول مالك، وأحمد، وإسحاق، والحجة لمن أجاز الرطب أمره عليه السلام، بالسواك عند كل وضوء، كما لم يخص الصائم من غيره بالإباحة، كذلك لم يخص السواك الرطب من غيره بالإباحة، فدخل فى عموم الإباحة كل جنس من السواك رطبًا أو يابسًا، ولو افترق حكم الرطب واليابس فى ذلك لبينه عليه السلام، لأن الله فرض عليه البيان لأمته، وحديث عثمان فى الوضوء حجة واضحة فى ذلك وهو انتزاع ابن سيرين حين قال‏:‏ لا بأس بالسواك الرطب، قيل‏:‏ له طعم‏.‏

قال‏:‏ والماء له طعم، وأنت تتمضمض به، وهذا لا انفكاك منه، لأن الماء أرق من ريق المتسوك وقد أباح الله المضمضة بالماء فى الوضوء للصائم، وإنما كرهه من كرهه خشية من ألا يعرف أن يحترس من ازدراد ريقه، قال ابن حبيب‏:‏ من استاك بالأخضر ومج من فيه ما اجتمع فى فيه، فلا شىء عليه، ولا بأس به للعالم الذى يعرف كيف يتقى ذلك، ومن وصل من ريقه إلى حلقه شىء فعليه القضاء‏.‏

باب قَوْلِ النَّبِىِّ عليه السلام‏:‏ ‏(‏إِذَا تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمَنْخِرِهِ الْمَاءَ‏)‏، وَلَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الصَّائِمِ وَغَيْرِهِ

وَقَالَ الْحَسَنُ‏:‏ لا بَأْسَ بِالسَّعُوطِ لِلصَّائِمِ، إِنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى حَلْقِهِ وَيَكْتَحِلُ‏.‏

وقال عَطَاءٌ‏:‏ إِنْ تَمَضْمَضَ ثُمَّ أَفْرَغَ مَا فِى فِيهِ مِنَ الْمَاءِ لا يَضِرُهُ، إِنْ لَمْ يَزْدَرِدْ رِيقَهُ وَمَاذَا بَقِىَ فِى فِيهِ، وَلا يَمْضَغُ الْعِلْكَ فَإِنِ ازْدَرَدَ رِيقَ الْعِلْكِ لا أَقُولُ أَنَّهُ يُفْطِرُ، وَلَكِنْ يُنْهَى عَنْهُ‏.‏

اختلف العلماء فى الصائم يتمضمض أو يستنشق أو يستنثر فيدخل الماء فى حلقه، فقالت طائفة‏:‏ صومه تام ولا شىء عليه، هذا قول عطاء وقتادة فى الاستنثار، وبه قال أحمد وإسحاق، وقال الحسن‏:‏ لا شىء عليه إن مضمض فدخل الماء فى حلقه‏.‏

وهو قول الأوزاعى، وكان الشافعى يقول‏:‏ لو أعاد احتياطًا، ولا يلزمه أن يعيد‏.‏

وقال أبو ثور‏:‏ لا شىء عليه فى المضمضة والاستنشاق‏.‏

وإلى هذا ذهب البخارى، وقالت طائفة‏:‏ يقضى يومًا مكانه‏.‏

وهذا قول مالك والثورى، وقال أبو حنيفة وأصحابه فى المضمضة‏:‏ إن كان ذاكرًا لصومه قضى، وإن كان ناسيًا فلا شىء عليه‏.‏

وفرق آخرون بين المضمضة للصلاة المكتوبة والنافلة، فأوجبوا القضاء فى النافلة وأسقطوه فى المكتوبة، روى هذا عن ابن عباس، والنخعى، وابن أبى ليلى، قال ابن القصار‏:‏ وحجة من أوجب القضاء أنه ليس المضمضة والاستنشاق هما الموصلان الماء إلى جوفه، وإنما توصله المبالغة، والاحتراز منها ممكن فى العادة، وإن لم يبالغ فالمضمضة سبب ذلك أيضًا، وهذا بمنزلة القبيلة إذا حصل معها الإنزال سواء كانت القبلة مباحة أو غير مباحة، لأنه لما كانت القبلة مع الإنزال تفطر، كذلك المضمضة مع الازدراد، وأظن أبا حنيفة إنما فرق بين الذاكر لصومه والناسى على أصله فى كل من أكل ناسيًا فى رمضان أنه لا شىء عليه، وقد تقدم ذلك فى باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسيًا، فأغنى عن إعادته، ولا معنى لقول من فرق بين الوضوء للمكتوبة والنافلة بغير دليل ولا حجة‏.‏

وأما السعوط للصائم فذهب الثورى، وأبو حنيفة، وأصحابه، والأوزاعى، وإسحاق إلى أنه إذا استعط فعليه القضاء، يعنون إذا احتاج إليه للتداوى، وقال مالك‏:‏ إذا وصل ذلك إلى فمه لضرورته إلى التداوى به فعليه القضاء‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ إذا وصل طعم ذلك إلى دماغه عليه القضاء، غير أن أل الشافعى أنه لا كفارة على من أكل عمدًا، قال إسحاق‏:‏ إن دخل حلقه عليه القضاء والكفارة، قال ابن المنذر‏:‏ وقال قائل‏:‏ لا قضاء عليه، وقد روينا عن النخعى روايتين‏:‏ إحداهما كراهية السعود، والأخرى الرخصة فيه‏.‏

قال المؤلف‏:‏ والحجة المتقدمة لمن أوجب القضاء فى المضمضة إذا أوصل الماء منها إلى الجوف، هى الحجة فى إيجاب القضاء عن السعود إذا وصل ذلك فمه أو جوفه‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وحجة من لم ير القضاء فى ذلك أن القضاء إلزام فرض، ولا يجب ذلك إلا بسنة أو إجماع، وذلك غير موجود، وما حكاه البخارى عن عطاء أنه إن مضمض ثم أفرغ ما فى فيه لم يضره أن يزدرد ريقه وما بقى فى فيه، فلا يوهم هذا أن عطاء يبيح أن يزدرد ما بقى فى فيه من الماء الذى تمضمض به، وإنما أراد أنه إذا مضمض ثم أفرغ ما فى فيه من الماء أنه لا يضره أن يزدرد ريقه خاصة، لأنه لا ماء فى فيه بعد تفريغه له، قال عطاء‏:‏ وماذا بقى فى فيه‏؟‏ هكذا رواه عبد الرزاق عن ابن جريج، عن عطاء، وأظنه سقط ‏(‏ذا‏)‏ للناسخ، والله أعلم‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وأجمعوا أنه لا شىء على الصائم فى ما يزدرده مما يجرى مع الريق مما بين أسنانه من فضل سحور أو غيره مما لا يقدر على إخراجه وطرحه، وكان أبو حنيفة يقول‏:‏ إذا كان بين أسنانه لحم فأكله متعمدًا فلا قضاء عليه ولا كفارة، وفى قول سائر أهل العلم إما عليه القضاء والكفارة أو القضاء على حسب اختلافهم فيمن أكل عامدًا فى الصيام، قال ابن المنذر‏:‏ هو بمنزلة الأكل فى الصوم فعليه القضاء‏.‏

واختلفوا فى مضغ العلك للصائم، فرخصت فيه طائفة، روى ذلك عن عائشة وعطاء، وقال مجاهد‏:‏ كانت عائشة ترخص فى الغار وحده، وكرهت ذلك طائفة، روى ذلك عن النخعى، والشعبى، وعطاء، والكوفيين، والشافعى، وأشهب، وأحمد، وإسحاق، إلا أنه لا يفطر ذلك عند الكوفيين والشافعى، وإسحاق، ولم يذكر عنهم ابن المنذر الفرق بين مجه وازدراده، وعند أصحاب مالك إن مجه فلا شىء عليه، وإن ازدرده فقد أفطر‏.‏

باب إِذَا جَامَعَ فِى رَمَضَان

وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ‏:‏ ‏(‏مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلا مَرَضٍ، لَمْ يَقْضِهِ صِيَامُ الدَّهْرِ وَإِنْ صَامَهُ‏)‏‏.‏

وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالشَّعْبِىُّ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَقَتَادَةُ، وَحَمَّادٌ‏:‏ يَقْضِى يَوْمًا مَكَانَهُ‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِىَّ، عليه السلام، فِى رَمَضَانَ، فَقَالَ له إِنَّهُ احْتَرَقَ، قَالَ‏:‏ ‏(‏مَا لَكَ‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَصَبْتُ أَهْلِى فِى رَمَضَانَ، فَأُتِىَ النَّبِىُّ، عليه السلام، بِمِكْتَلٍ يُدْعَى الْعَرَقَ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَيْنَ الْمُحْتَرِقُ‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَنَا، قَالَ‏:‏ ‏(‏تَصَدَّقْ بِهَذَا‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فيما يجب على الواطىء عامدًا فى نهار من شهر رمضان، فذكر البخارى عن جماعة من التابعين أن على من أفطر القضاء فقط بغير كفارة‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فنظرت أقوال التابعين الذين ذكرهم البخارى فى صدر هذا الباب فى المصنفات، فلم أر قولهم بسقوط الكفارة إلا فى المفطر بالأكل لا فى المجامع، فيحتمل أن يكون عندهم الآكل والمجامع سواء فى سقوط الكفارة، إذ كل ما أفسد الصيام من أكل وشرب أو جماعة فاسم فطر يقع عليه، وفاعله مفطر بذلك من صيامه، وقد قال عليه السلام، فى ثواب الصائم‏:‏ ‏(‏قال الله تعالى‏:‏ يدع طعامه وشرابه، وشهوته من أجلى‏)‏، فدخلت فى ذلك أعظم الشهوات، وهى شهوة الجماع‏.‏

وذكر عبد الرزاق عن سعيد بن المسيب‏:‏ ن كل من أكل فى شهر رمضان عامدًا عليه صيام شهر، وذكر عن ابن سيرين‏:‏ عليه صيام يوم، وأوجب جمهور الفقهاء على المجامع عامدًا الكفارة والقضاء، هذا قول مالك، وعطاء، والثورى، وأبى حنيفة، وأصحابه، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، واحتجوا بإعطاء النبى للمحترق المكتل ليتصدق به، قالوا‏:‏ فثبت بهذا الخبر الكفارة على المجامع، ولا وجه لقول من لم ير الكفارة فى ذلك لخلافهم السنة الثابتة والجمهور، وقد تقدم فى ‏(‏باب‏:‏ من أكل وشرب ناسيًا‏)‏، أن فى قول الرجل‏:‏ إنه احترق، دليلاً أنه كان عامدًا منتهكًا فى وطئه، لأن الله قد رفع الحرج عن السهو والخطأ، ويؤيد هذا قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏أين المحترق‏؟‏‏)‏ فأثبت له حكم العمد بهذا، لأنه لا ينطق عن الهوى‏.‏

وذكر الطحاوى فى ‏(‏شرح معانى الآثار‏)‏، قال‏:‏ ذهب قوم إلى أن من وقع بأهله فى رمضان فعليه أن يتصدق، ولا يجب عليه من الكفارة غير ذلك، واحتجوا بهذا الحديث‏.‏

ولم يسم القائلين بذلك وحديث أبى هريرة أول منه، لأنه قد كان قبل الذى فى حديث عائشة شىء حفظه أبو هريرة ولم تحفظه عائشة، فهو ألو لما زاد فى الحديث من العتق والصيام، فأما قول البخارى‏:‏ ويذكر عن أبى هريرة‏:‏ ‏(‏من أفطر يومًا من رمضان متعمدًا لم يقضه صيام الدهر‏)‏، فرواه الثورى عن حبيب بن أبى ثابت، عن ابن المطوس، عن أبيه، عن أبى هريرة، عن النبى، عليه السلام، وهو حديث ضعيف لا يحتج بمثله، وقد صضحت الكفارة بأسانيد صحاح، ولا تعارض بمثل هذا الحديث، وقال البخارى فى التاريخ‏:‏ تفرد أبو المطوس بهذا الحديث، ولا نعرف له غيره، ولا أدرى سمع أبوه من أبى هريرة أم لا، واسمه‏:‏ يزيد بن المطوس‏.‏

واختلفوا فيمن أكل عامدًا فى رمضان، فقال مالك‏:‏ وأبو حنيفة، والثورى، والأوزاعى، وأبو ثور، وإسحاق‏:‏ عليه ما على المجامع من الكفارة مع القضاء، وهو قول عطاء، والحسن، والزهرى، وقال الشافعى، وأحمد بن حنبل‏:‏ عليه القضاء دون الكفارة، وهو قول النخعى، وابن سيرين، وقالوا‏:‏ إن الكفارة إنما وردت فى المجامع خاصة، وليس الآكل مثله بدليل قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏من استقاء فعليه القضاء‏)‏، وهو مفطر عمدًا، وكذلك مزدرد الحصى عمدًا عليه القضاء، وحجة من أوجب الكفارة أن الأكل والشرب فى القياس كالجماع سواء، وأن الصوم فى الشريعة الامتناع من الأكل والشرب والجماع، فإذا ثبت فى الشريعة فى وجه واحد منهما حكم فسبيل نظيره فى ذلك الحكم سبيله، لأن المعنى الجامع بينهما انتهاك حرمة الشهر بما يفسد الصوم عمدًا، وذلك أن الأكل والجماع كانا محرمين فى ليل الصوم بعد النوم، فنسخ الله ذلك رفقًا بعباده، وأباح الجماع والأكل إلى الفجر، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏، فبقى الأكل والجماع بالنهار محرمين، وأوجب عليه السلام على الواطئ فى رمضان الكفارة، فوجب أن يكون حكم الأكل فى الكفارة مثله، إذ هما فى التحريم سواء‏.‏

وأما قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏من استقاء فعليه القضاء‏)‏، فقد ثبت بقوله‏:‏ عليه القضاء أنه مفطر، فإن كان استقاء لحاجة دعته إلى ذلك، فهو كالعليل الذى يحتاج إلى شرب الدواء، وهو مفطر غير مأثوم ولا ممنوع، فلا كفارة عليه، وإن كان لغير حاجة فهو منتهك لحركة الصوم، فعليه الكفارة، وقد أوجب عطاء على المستقىء عمدًا لغير عذر القضاء والكفارة، وهو قول أبى ثور، ويدخل على الشافعى التناقض فى قياسه الأكل على القىء، لأنه فرق بين الأكل والقىء فى المكره، فقال‏:‏ إذا أكره على الأكل فعليه القضاء، وإن أكره على القىء فلا قضاء عليه، فيلزمه أن يفرق فى الصيام بين القىء والأكل والجماع، ولا يجمع بينها‏.‏

وقد اختلف الفقهاء فى قضاء ذلك اليوم مع الكفارة، قال مالك‏:‏ عليه قضاء ذلك اليوم مع الكفارة، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه، والثورى، وأبى ثور، وأحمد، وإسحاق، وقال الأوزاعى‏:‏ إن كفر بالعتق أو الإطعام صام يوًا مكان ذلك اليوم الذى أفطر، وإن صام شهرين متتابعين دخل فيهما قضاء ذلك اليوم، وقال الشافعى‏:‏ يحتمل أن تكون الكفارة بدلا من الصيام، ويحتمل أن يكون الصيام مع الكفارة، وأحب إلى أن يكفر ويصوم، وحجة من أوجب صوم اليوم مع الكفارة أن الكفارة عقوبة للذنب الذى ركبه، والقضاء بدل من اليوم الذى أفسده، فكما لا يسقط عن المفسد حجه بالوطء إذا أهدى البدن، فكذلك قضاء اليوم، والله أعلم‏.‏

واعتل من لم يَرَ مع الكفارة صيام اليوم بأنه ليس فى حديث عائشة ولا خبر أبى هريرة فى نقل الحفاظ ذكر القضاء، وإنما فيهما الكفارة فقط، فيقال له‏:‏ قد روى عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده‏:‏ ‏(‏أن أعرابيا جاء ينتف شعره، وقال‏:‏ يا رسول الله، وقعت على امرأتى فى رمضان، فأمره رسول الله أن يقضى يومًا مكانه‏)‏، وهو من مرسلات سعيد بن المسيب، وهى حجة عند الفقهاء، وكتاب الله يشهد بصحته، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏ ولا تبرأ الذمة إلا بيقين الأداء وهو قضاء اليوم مع الكفارة‏.‏

واختلفوا فى مقدار الكفارة، فقال مالك والشافعى‏:‏ الإطعام فى ذلك مد لكل مسكين بمد النبى، عليه السلام، وقال أبو حنيفة‏:‏ إن أخرج من البر فنصف صاع لكل مسكين، ومن التمر والشعير صاع، والحجة لمالك أن العرق الذى فى الحديث مبلغه خمسة عشر صاعًا، وذلك ستون مدا‏.‏

وروى ابن المنذر عن مؤمل بن إسماعيل، حدثنا سفيان، عن منصور، عن الزهرى، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبى هريرة‏:‏ أن رجلا أتى النبى فقال‏:‏ يا رسول الله، إنى وقعت على امرأتى فى رمضان‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏أعتق رقبة‏)‏، قال‏:‏ لا أجد، قال‏:‏ ‏(‏صم شهرين متتابعين‏)‏، قال‏:‏ لا أستطيع، قال‏:‏ ‏(‏أطعم ستين مسكينًا‏)‏، قال‏:‏ لا أجد، فأتى النبى، عليه السلام، بمكتل فيه خمسة عشر صاعًا، قال‏:‏ ‏(‏خذ هذا فأطعمه عنك‏)‏ الحديث‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ فقد أمر النبى، عليه السلام، الواقع على أهله فى رمضان بعد أن أعلمه أن الذى يجب على من لا يجد الرقبة إطعام ستين مسكينًا أن يتصدق بخمسه عشر صاعًا من تمر، وذلك مد لكل مسكين، وفى إعطاء الرسول للرجل الصاع ليتصدق به حجة لمالك فى اختياره الإطعام فى كفارة المفطر فى رمضان، لأنه يشبه البدل من الصيام، ألا ترى أن الحامل والمرضع والشيخ الكبير والمفرط فى قضاء رمضان حتى يدخل عليه رمضان آخر لا يؤمر بالإطعام وهذا مأخوذ من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 184‏]‏، وذكر أبو عبيد عن الأصمعى، قال‏:‏ أصل العرق‏:‏ السقيفة المنسوجة من الخوص قبل أن يجعل منها زبيل، فسمى الزبيل عرقًا بذلك، زعم الأخفش أنه سمى عرقًا، لأنه يعمل عرقة عرقة ثم تضم، والعرقة الطريقة، ولذلك سميت درة الكتاب عرقة لعرضها واصطفافها، يقال‏:‏ عرقة وعرق، كما يقال‏:‏ علقة وعلق‏.‏

باب إِذَا جَامَعَ فِى رَمَضَانَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ فَتُصُدِّقَ عَلَيْهِ فَلْيُكَفِّرْ

- فيه‏:‏ أَبَو هُرَيْرَةَ‏:‏ جَاءَ إِلَى النبى، عليه السلام، رَجُلٌ، فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكْتُ، قَالَ‏:‏ ‏(‏مَا لَكَ‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِى، وَأَنَا صَائِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ‏:‏ ‏(‏هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ لا، قَالَ‏:‏ ‏(‏فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ لا، قَالَ‏:‏ ‏(‏فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ لا، قَالَ‏:‏ فَمَكَثَ النَّبِىُّ، عليه السلام، فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ، أُتِىَ النَّبِىُّ، عليه السلام بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ، وَالْعَرَقُ الْمِكْتَلُ، قَالَ‏:‏ ‏(‏أَيْنَ السَّائِلُ‏)‏‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ أَنَا، قَالَ‏:‏ ‏(‏خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ‏)‏، قَالَ الرَّجُلُ‏:‏ أَعَلَى أَفْقَرَ مِنِّى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَوَاللَّهِ مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِى، فَضَحِكَ النَّبِىُّ حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏(‏أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ‏)‏‏.‏

وترجم له باب‏:‏ ‏(‏المجامع فى رمضان هل يطعم أهله من الكفارة إذا كانوا محاويج‏)‏، وفيه‏:‏ أن الرجل قال للنبى‏:‏ ‏(‏إن الأخر وقع على امرأته فى رمضان‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى الواطئ فى رمضان إذا وجب عليه التكفير بالإطعام دون غيره، ولم يجد ما يطعم كالرجل الذى ورد فى هذا الحديث، قال ابن شهاب‏:‏ إباحة النبى لذلك الرجل أكل الكفارة لعسرته رخصة له وخصوص، وقال‏:‏ لو أن رجلاً فعل ذلك اليوم لم يكن له بد من التكفير، وزعم الطبرى أن قياس قول أبى حنيفة، والثورى، وأبى ثور أن الكفارة دين عليه لا يسقطها عنه عسرته كسائر الكفارات، وقال عيسى بن دينار‏:‏ الكفارة على المعسر واجبة، فإذا أيسر أداها، وقال الأوزاعى‏:‏ الكفارة ساقطة عن ذمته إذا كأن محتاجًا، لأنه لما جاز للمكفر أن يطعم أهله الكفارة علم أنها ساقطة عن ذمته، قيل للأوزاعى‏:‏ أنسأل فى الكفارة‏؟‏ قال‏:‏ لا، رد رسول الله كفارة المفطر عليه وعلى أهله، فليستغفر الله ولا يعد، ولم ير عليه شيئًا، وهو قول أحمد بن حنبل‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ يحتمل أن تكون الكفارة دينًا عليه متى أطاقها أداها، وإن كان ذلك ليس فى الخبر، وهو أحب إلينا وأقرب إلى الاحتياط وله احتمالات أخر، هذا الوجه الذى أستحب، سأوردها فى هذا الذى بعد هذا، وأرد فيه قول من جعل الكفارة ساقطة عن المعسر خلاف من ذكرت قوله فى هذا الباب، إن شاء الله‏.‏

ويحتمل أنه لما كان فى الوقت الذى أصاب فيه أهله ليس ممن يقدر على واحدة من الكفارات، تطوع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن قال له فى شىء أتى به‏:‏ ‏(‏كَفِّر‏)‏‏.‏

فلما ذكر الحاجة ولم يكن الرجل قبضه‏.‏

قال له‏:‏ ‏(‏كله وأطعمه أهلك‏)‏، وجعل التمليك له حينئذ مع القبض، ويحتمل أن يكون لما ملكه وهو محتاج، وكان إنما تجب عليه الكفارة إذا كان عنده فضل، ولم يكن عنده فضل، قال له كله، هو وأهله، لحاجته ويحتمل إذا كان لا يقدر على شىء من الكفارات، وكان لغيره أن يكفر عنه، كان لغيره أن يتصدق عليه وعلى بيته بتلك الكفارة إذا كانوا محتاجين، وتجزئ عنه ويحتمل أن تسقط عنه الكفارة لعدمه، كما سقطت الكفارة عن المغمى عليه إذا كان مغلوبًا‏.‏

قال المهلب‏:‏ قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏كله‏)‏ دليل على أنه إذا وجبت على معسر كفارة إطعام، وكان محتاجًا إلى إبقاء رمق نفسه وأهله أن يؤثرها بذلك الإطعام، ويكون ذلك مجزئًا عنه على قول من رأى سقوط الكفارة عنه بالعسرة، وعلى مذهب الآخرين يكون فى ذمته إلى الميسرة، ورد ابن القصار على من رأى سقوط الكفارة عنه بالعسرة فقال‏:‏ أما إباحته عليه السلام للواطئ أكل الكفارة، فلا يمتنع من بقاء حكم الكفارة فى ذمته، لأنه لما أخبر عن حاجته أباح له الانتفاع بما أعطاه، ولم يتعرض لحكم ما فى ذمته، فبقى ذلك بحاله‏.‏

وقال غيره‏:‏ فإن احتج محتج فى سقوط الكفارة بقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏أطعمه أهلك‏)‏‏.‏

ولم يقل له‏:‏ وتؤديها إذا أيسرت، لأنها لو كانت واجبة لم يسكت حتى يبين ذلك، قيل له‏:‏ ولا قال له رسول الله‏:‏ إنها ساقطة عنك لعسرك بعد أن كان أخبره بوجوبها عليه وكل ما وجب عليه أداؤه فى اليسار لزم الذمة إلى الميسرة‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه أن الصدقة على أهل الفقير واجبة بهذا الحديث واحتج بهذا الحديث من جعل كفارة المفطر فى رمضان مرتبة على ما جاء فى هذا الحديث، أولها بالعتق، فإن لم يجد صام، فإن لم يقدر أطعم، هذا قول أبى حنيفة وأصحابه، والثورى، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وأبى ثور، وفى المدونة قال ابن القاسم‏:‏ لا يعرف مالك فى الكفارة إلا الإطعام، لا عتقًا ولا صومًا، وقال فى كتاب الظهار‏:‏ ما للعتق وماله قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 184‏]‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وأمر المحترق بالصدقة، وروى عن مالك أنه مخير بين العتق أو الصيام أو الإطعام، ذكره ابن القصار، والحجة له حديثه عن الزهرى، عن حميد، عن أبى هريرة ‏(‏أن رجلاً أفطر فى رمضان، فأمره النبى أن يعتق أو يصوم أو يطعم‏)‏، و ‏(‏أو‏)‏ موضعها فى كلام العرب للتخيير، ولا توجب الترتيب، ويجوز أن يكون أبو هريرة قد حفظ الفتيا من الرسول فى مرتين فرواه مرة على التخيير، ومرة على الترتيب، ليعلمنا الجواز فى التخيير أو الندب إلى تقديم العتق، ولا يكون أحدهم ناسخًا للآخر‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ إنما أمره النبى، عليه السلام، بكل صنف من أصناف الكفارة الثلاثة لما لم يكن واجدًا للصنف الذى ذكر له قبله على ما ثبت فى حديث هذا الباب، وقال بعض العراقيين‏:‏ القصة واحدة، والراوى واحد وهو الزهرى، وقد نقل التخيير والترتيب، ولا يجوز أن يكون خيره ورتبه، فلابيد من المصير إلى أحد الروايتين، فالمصير إلى الترتيب أولى من وجوه‏:‏ أحدها‏:‏ كثرة ناقليها، والثانى‏:‏ أن من نقل الترتيب فإنما نقل لفظه عليه السلام، ومن نقل التخيير فإنما نقل لفظًا لراوٍ، وإن كانا فى الحجة سواء، وإذا تعارضا كان المصير إلى من نقل لفظه عليه السلام أولى‏.‏

والثالث‏:‏ أن من نقل الترتيب نقل الخبر مفسرًا، لأنه قال له‏:‏ ‏(‏أعتق، قال‏:‏ لا أجد، قال‏:‏ فصم‏)‏، ومن نقل التخيير لم يذكر أنه أمره بالصيام والإطعام بعد أن ذكر الأعرابى عجزه، وهذه زيادة، والرابع‏:‏ أن فيه احتياطًا، لأنها إن كانت على التخيير أجزأه إذا رتب، وإن كانت على الترتيب لم يجزئه ما دونه‏.‏

واختلفوا فى المرأة إذا وطئها طائعة فى رمضان، فقال مالك‏:‏ عليها مثل ما على الرجل من الكفارة، وهو قول أبى حنيفة، وأبى ثور، وقال الشافعى‏:‏ تجزئ الكفارة التى كفرها الرجل عنهما، وفيه قول ثالث‏:‏ أن الكفارة الواحدة تجزئهما إلا الصيام، فإنه عليهما، يصوم كل واحد منهما شهرين متتابعين، وإن أكرهها فالصوم عليه وحده‏.‏

واختلفوا إذا وطئها مكرهة، فقال مالك‏:‏ عليهخ كفارتان عنه وعنها، وكذلك إن وطئ أمته كفر كفارتين، وقال أبو حنيفة‏:‏ عليه كفارة واحدة ولا شىء عليها، وقال الشافعى‏:‏ ليس عليها كفارة سواء طاوعته أو أكرهها، واحتج بأن النبى إنما أجاب السائل بكفارة واحدة ولم يسأله هل طاوعته أم أكرهها، ولو اختلف الحكم لم يترك النبى تبيين ذلك، وحجة من أوجب عليها الكفارة إن طاوعته القياس على قضاء ذلك اليوم، فلما وجب عليها قضاء ذلك اليوم، وجب عليها الكفارة عنه، وأما وجوب الكفارة عليه عنها إذا أذكرهها، فلأنه سبب إفساد صومها بتعديه الذى أوجب الكفارة عليه عن نفسه،، فوجب أن يكفر عنها، وهذا مبنى على أصولهم إذا أكرهها، وأفسد حجها بالوطء، فعليه أن يحجها من ماله، ويهدى عنها، وكذلك إذا حلق رأس محرم نائم، فإنه ينسك عنه، لأنه أدخل ذلك عليه بتعديه من غير اختيار من المفعول به ذلك، ولا يلزم على هذا الناسى، والحائض، والمريض وغيرهم من المعذورين إذا أفطروا، لأن السبب أتاهم من قبل الله تعالى، وفى مسألتنا الفطر أتى من قبل الواطئ، والكفارة تتعلق بالذمة، لأن ماله لو تلف لم تسقط‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏إن الأخر وقع على امرأته‏)‏ قال ثابت‏:‏ الأخر على مثال فعل هو الأبعد، وقال بعضهم‏:‏ الأخير الأبعد، والآخر الغائب، وقال قيس بن عاصم لبنيه‏:‏ يا بنى، إياكم ومسألة الناس، فإنها آخر كسب المرء يعنى‏:‏ أرذله وأوسخه‏.‏

باب الْحِجَامَةِ وَالْقَيْءِ لِلصَّائِمِ

يروى عن أَبَى هُرَيْرَةَ‏:‏ إِذَا قَاءَ فَلا يُفْطِرُ، إِنَّمَا يُخْرِجُ وَلا يُولِجُ، وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يُفْطِرُ، وَالأوَّلُ أَصَحُّ‏.‏

وقال ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ‏:‏ الفطَّرْ مِمَّا دَخَلَ وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ، ثُمَّ تَرَكَهُ فَكَانَ يَحْتَجِمُ بِاللَّيْلِ، وَاحْتَجَمَ أَبُو مُوسَى لَيْلا، وَيُذْكَرُ عَنْ سَعْدٍ وَزَيْدِ ابْنِ أَرْقَمَ وَأُمِّ سَلَمَةَ احْتَجَمُوا صِيَامًا، وَقَالَ بُكَيْرٌ عَنْ أُمِّ عَلْقَمَةَ‏:‏ كُنَّا نَحْتَجِمُ عِنْدَ عَائِشَةَ فَلا تَنْهَى، وَيُرْوَى عَنِ الْحَسَنِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مَرْفُوعًا‏:‏ ‏(‏أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ‏)‏، قِيلَ لَهُ‏:‏ عَنِ النَّبِىِّ، عليه السلام، قَالَ‏:‏ نَعَمْ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ اللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

- فيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاسٍ ‏(‏أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السلام، احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ، قِيلَ لأَنَس‏:‏ أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ الْحِجَامَةَ لِلصَّائِمِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لا، إِلا مِنْ أَجْلِ الضَّعْفِ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ أما قول أبى هريرة‏:‏ ‏(‏إذا قاء فلا يفطر‏)‏، فقد روى مرفوعًا من حديث عيسى بن يونس، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبى هريرة، قال‏:‏ قال رسول الله‏:‏ ‏(‏من استقاء فعليه القضاء، ومن ذرعه القىء فلا قضاء عليه‏)‏، وهذا الحديث انفرد به عيسى بن يونس، عن هشام بن حسان، وعيسى ثقة، إلا أن أهل الحديث أنكروه عليه، ووهم عندهم فيه، وقال البخارى‏:‏ لا يعرف إلا من هذا الطريق، ولا أراه محفوظًا وروى معاوية بن سلام عن يحيى بن أبى كثير، قال‏:‏ أخبرنى عمر بن الحكم بن ثوبان أنه سمع أبا هريرة يقول‏:‏ إذا قاء أحدكم فلا يفطر، فإنما يخرج ولا يدخل‏.‏

وهذا عندهم أصح موقوفًا على أبى هريرة‏.‏

وأجمع الفقهاء أن من ذرعه القىء فلا قضاء عليه، واختلفوا فى من استقاء، فقال مالك، والليث، والثورى، وأبو حنيفة، والشافعى، وأحمد‏:‏ من استقاء عامدًا فعليه القضاء، وعليه الجمهور، روى ذلك عن على، وابن عمر، وأبى هريرة‏.‏

وقال الأوزاعى وأبو ثور‏:‏ عليه القضاء والكفارة مثل كفارة الآكل عامدًا فى رمضان، وهو قول عطاء، واحتجوا بحديث الأوزاعى عن يعيش بن الوليد بن هشام أن أباه حدثه قال‏:‏ حدثنا معدان بن طلحة أن أبا الدرداء حدثه‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر، قالوا‏:‏ وإذا كان القيىء يفطر الصائم فعلى من تعمده ما على من تعمد الأكل والشرب والجماع القضاء والكفارة، وتأول الفقهاء هذا الحديث قالوا‏:‏ معنى قاء أى استقاء، قال الطحاوى‏:‏ ويجوز أن يكون قوله‏:‏ ‏(‏قاء فأفطر‏)‏ أى‏:‏ قاء فضعف فأفطر، وقد يجوز هذا فى اللغة، وقد روى هذا المعنى محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبى حبيب، عن أبى مرزوق، عن فضالة بن عبيد‏:‏ أن رسول الله دعا بإناء فشرب، فقيل‏:‏ يا رسول الله، هذا يوم كنت تصومه، قال‏:‏ ‏(‏أجل، إنى قئت فأفطرت‏)‏، وهذا معناه ولكنى قئت فضعفت عن الصيام فأفطرت، وليس فى هذين الحديثين دليلا أن القىء كان مفطرًا له، إنما فيهما أنه قاء فأفطر بعد ذلك‏.‏

وأما الحجامة للصائم‏:‏ فجمهور الصحابة والتابعين والفقهاء على أنه لا تفطره، وروى عن على بن أبى طالب أنها تفطر الصائم، وهو قول الأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، واحتجوا بأحاديث ‏(‏أفطر الحاجم والمحجوم‏)‏، وقد صحح على بن المدينى، والبخارى منها حديث شداد وثوبان‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ وحجة الجماعة ما رواه ابن عباس‏:‏ أن النبى، عليه السلام، احتجم وهو صائم، واحتجم وهو محرم‏.‏

فإن صح حديثهم، فحديث ابن عباس ناسخ له، لأن فى حديث شداد بن أوس أن النبى، عليه السلام، قال عام الفتح فى رمضان لرجل كان يحتجم‏:‏ ‏(‏أفطر الحاجم والمحجوم‏)‏، والفتح كان فى سنة ثمان، وحجة الوداع سنة عشر، فخبر ابن عباس متأخر ينسخ المتقدم، فإن قيل‏:‏ لا حجة فى هذا، لأن النبى لم يكن محرمًا إلا وهو مسافر، لأنه خرج إلى مكة وأحرم ودخلها وهو مسافر، وللمسافر أن يفطر بالحجامة وغيرها، وهذا سؤال لهم جيد، فنقول‏:‏ إن الخبر لم ينقل إلا لفائدة، فهذا يقتضى أنه وجد منه كمال الحجامة وهو صائم لم يتحلل من صومه فأفطر بعد ذلك إذ الراوى لم يقل‏:‏ احتجم فأفطر، وعندكم أن الفطر يقع بأول خروج الدم، ولا يبقى صائمًا إلى أن تتم الحجامة، والخبر يقتضى أن يكون صائمًا فى حال حجامته وبعد الفراغ، والحجامة كالفصاد وهو لا يفطر الصائم، قال الطحاوى‏:‏ وليس ما رووه من قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏أفطر الحاجم والمحجوم‏)‏، ما يدل أن ذلك الفطر كان لأجل الحجامة، وإنما كان بمعنى آخر كانا يفعلانه، كما يقال‏:‏ فسق القاسم، ليس بأنه فسق بقيامه، ولكنه فسق بمعنى آخر غير القيام‏.‏

وروى يزيد بن ربيعة الدمشقى عن أبى الأشعث الصنعانى قال‏:‏ إنما قال رسول الله‏:‏ ‏(‏أفطر الحاجم والمحجوم‏)‏، لأنهما كانا يغتابان، وليس إفطارهما ذلك كالإفطار بالأكل والشرب والجماع، لكن حبط أجرهما باغتيابهما، فصار بذلك مفطرين، لا أنه إفطار يوجب عليهما القضاء، كما قالوا‏:‏ الكذب يفطر الصائم، إنما هو بمعنى حبوط الأجر، وقد روى عن جماعة من الصحابة فى ذلك معنى آخر، روى قتادة عن أبى المتوكل الناجى، عن أبى سعيد الخدرى قال‏:‏ إنما كرهت الحجامة للصائم، من أجل الضعف، وعن ابن عباس، وأنس بن مالك مثله، فدلت هذه الآثار على أن المكروه من أجل الحجامة فى الصيام هو الضعف الذى يصيب الصائم فيفطر من أجله بالأكل والشرب، وقد روى هذا المعنى عن أبى العالية، وأبى قلابة، وسالم، والنخعى، والشعبى، والحسين ابن على، وقال القاسم بن محمد فى ما يذكر من قول الناس ‏(‏أفطر الحاجم والمحجوم‏)‏، فقال‏:‏ لو أن رجلا حجم يده أو بعض جسده لم يفطره ذلك، قال الطحاوى، وتأويل أبى الأشعث أشبه بالصواب، لأن الضعف لو كان هو المقصود بالنهى لما كان الحاجم داخلا فى ذلك، فإذا كان الحاجم والمحجوم قد جمعا فى ذلك أشبه أن يكون ذلك لمعنى واحد هما فيه سواء، مثل الغيبة التى هما فيها سواء، كما قال أبو الأشعث‏.‏

وحديث ابن عباس المقنع فى هذا الباب‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وأما طريق النظر فرأينا خروج الدم أغلظ أحواله أن يكون حدثًا تنتقض به الطهارة‏.‏

وقد رأينا الغائط والبول خروجهما حدث تنتقض به الطهارة، ولا ينقض الصيام، فالنظر على ذلك أن يكون الدم كذلك، ورأينا لا يفطره فصد العروق فالحجامة فى النظر كذلك، وبالله التوفيق‏.‏

باب الصَّوْمِ فِى السَّفَرِ وَالإفْطَارِ

- فيه‏:‏ ابْنَ أَبِى أَوْفَى‏:‏ كُنَّا مَعَ النَبِى، عليه السلام، فِى سَفَرٍ، فَقَالَ لِرَجُلٍ‏:‏ ‏(‏انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي‏)‏، فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، الشَّمْسُ، قَالَ‏:‏ ‏(‏انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي‏)‏، قَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، الشَّمْسُ، قَالَ‏:‏ ‏(‏انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي‏)‏، قَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، الشَّمْسُ، قَالَ‏:‏ ‏(‏انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي‏)‏، فَنَزَلَ فَجَدَحَ لَهُ، فَشَرِبَ، ثُمَّ رَمَى بِيَدِهِ هَاهُنَا، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏(‏إِذَا رَأَيْتُمُ اللَّيْلَ أَقْبَلَ مِنْ هَاهُنَا، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ‏(‏يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنى أسرد الصوم أَأَصُومُ فِى السَّفَرِ‏)‏‏؟‏ وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ‏)‏‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ فى هذا الحديث من الفقه تخيير الصائم فى الصيام فى السفر أو الفطر، وفيه دليل أن أمره تعالى للمسافر بعدة من أيام أخر، إنما هو لمن أفطر، لا أن عليه أن يفطر ويقضى، وممن روى عنه تخيير المسافر فى الصيام ابن عباس، وذكر أنس وأبو سعيد ذلك عن أصحاب الرسول، وبه قال سعيد بن المسيب، وعطاء، وسعيد بن جبير، والحسن، والنخعى، ومجاهد، والأوزاعى، والليث‏.‏

واختلفوا فى الأفضل من ذلك لمن قدر عليه، فروى عن عثمان بن أبى العاصى، وأنس ابن مالك صاحبى النبى أن الصوم أفضل، وهو قول النخعى، وسعيد بن جبير، والأسود بن يزيد، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه، وقال مالك، والثورى، والشافعى، وأبو ثور‏:‏ الصوم أحب إلينا، وروى عن ابن عمر، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، والشعبى، أن الفطر أفضل، لأنه رخصة وصدقة تصدق الله بها فيجب قبولها، وهو قول الأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، وروى عن عمر بن الخطاب، وأبى هريرة، وابن عمر، وابن عباس إن صام فى السفر لم يجزئه، وعليه أن يصوم فى الحضر، وعن عبد الرحمن ابن عوف، قال‏:‏ الصائم فى السفر كالمفطر فى الحضر، وذكر هذا كله ابن المنضر، وبهذا قال أهل الظاهر، وقد صح التخيير فى الصيام فى السفر أو الفطر عن النبى، عليه السلام، من حديث حمزة ابن عمرو، وحديث أنس، وابن عباس، وأبى سعيد الخدرى، وأن النبى، عليه السلام، وأصحابه صاموا مرة فى السفر، وأفطروا أخرى، فلم يعب بعضهم ذلك على بعض، فلا يلتفت إلى من خالف ذلك، لأن الحجة فى السنة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏يا رسول الله، الشمس‏)‏، إنما أراد أن نور الشمس باق، وظن أن ذلك يمنعه من الإفطار، فأجابه النبى، عليه السلام، أن ذلك لا يضر إذا أقبل الليل، وسيأتى الكلام فى حديث ابن أبى أوفى فى باب‏:‏ ‏(‏متى يحل فطر الصائم‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏اجدح لى‏)‏، قال أبو عبيد‏:‏ المُجدّح‏:‏ الشراب المخوض بالمِجدَح، وقال صاحب ‏(‏العين‏)‏‏:‏ المجدح‏:‏ خشبة فى رأسها خشبتان معترضتان‏.‏

باب إِذَا صَامَ أَيَّامًا مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ سَافَرَ

- فيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏(‏أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ فِى رَمَضَانَ فَصَامَ، حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ أَفْطَرَ، فَأَفْطَرَ النَّاسُ‏)‏‏.‏

وَالْكَدِيدُ‏:‏ مَاءٌ بَيْنَ عُسْفَانَ وَقُدَيْدٍ‏.‏

- فيه‏:‏ أَبِو الدَّرْدَاءِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىِّ، عليه السلام، فِى بَعْضِ أَسْفَارِهِ فِى يَوْمٍ حَارٍّ حَتَّى يَضَعَ الرَّجُلُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَمَا فِينَا صَائِمٌ إِلا مَا كَانَ مِنَ النَّبِىِّ، عليه السلام، وَابْنِ رَوَاحَةَ‏)‏‏.‏

فى حديث ابن عباس إباحة السفر فى رمضان والفطر فيه، وهو رد لما روى عن على بن أبى طالب أنه قال‏:‏ ‏(‏من استهل عليه هلال رمضان مقيمًا صم سافر أنه ليس له أن يفطر لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏‏.‏

والمعنى عنده‏:‏ من أدرك رمضان وهو مسافر فعدة من أيام أخر، ومن أدركه حاضرًا فليصمه، وهو قول عبيدة السلمانى وسويد بن غفلة، وأبى مجلز، وهذا القول مردود لسفر النبى، عليه السلام، فى رمضان، وإفطاره فيه فى الكديد، وجمهور الأمة على خلاف هذا القول، لثبوت السنة بالتخيير فى الصيام أو الفطر فى السفر، ولصيامه عليه السلام فى سفره‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وإنما أمر من شهد الشهر كله أن يصوم، ولا يقال لمن شهد بعض الشهر أنه شهد الشهر كله، لأن النبى أنزل عليه الكتاب، وأوجب عليه بيان ما أنزل عليه، سافر فى رمضان وأفطر فى سفره‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ومعنى حديث أبى الدرداء فى هذا الباب هو أنه عليه السلام كان صائمًا، وابن رواحة، وسائر أصحابه مفطرون، فلو لم يجز الفطر فى رمضان لمن سافر فيه ما ترك النبى أصحابه مفطرين فيه، ولا سوغهم ذلك‏.‏

وفى حديث ابن عباس وأبى الدرداء رد لقول من قال‏:‏ إن الصيام فى السفر لا يجزئ، لأن الفطر عزيمة من الله وصدقة، ألا ترى صيامه عليه السلام فى السفر فى اليوم الشديد الحر، وقول أبى الدرداء‏:‏ ‏(‏وما فينا صائم إلا النبى، عليه السلام، وابن رواحة‏)‏ فلو كان الفطر عزمة من الله تعالى، لم يتحمل النبى مشقة الصيام فى شدة الحر، وإنما أراد أن يسن لأمته ليقتدوا به، وقد روى على بن معبد، عن عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم بن مالك، عن طاوس، عن ابن عباس، قال‏:‏ ‏(‏إنما أراد النبى بالفطر فى السفر التيسير عليكم، فمن يسر عليه الصيام فليصم، ومن يسر عليه الفطر فليفطر‏)‏‏.‏

فهذا ابن عباس لم يجعل إفطار النبى فى السفر بعد صيامه فيه ناسخًا للصوم فى السفر، ولكنه جعله على جهة التيسير‏.‏

باب قَوْلِ النَّبِىِّ عليه السلام لِمَنْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ وَاشْتَدَّ الْحَرُّ‏:‏ ‏(‏لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِى السَّفَرِ‏)‏

- فيه‏:‏ جَابِرِ‏:‏ كَانَ النبى صلى الله عليه وسلم فِى سَفَرٍ فَرَأَى رَجُلا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ‏:‏ مَا هَذَا‏؟‏ فَقَالُوا‏:‏ صَائِمٌ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِى السَّفَرِ‏)‏‏.‏

احتج محتج من أهل الظاهر بهذا الحديث، وقال‏:‏ ما لم يكن من البر فهو من الإثم، فدل ذلك أن صوم رمضان لا يجزئ فى السفر‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ قيل له هذا الحديث خرج لفظه على شخص معين، وهو رجل رآه رسول الله وهو صائم قد ظلل عليه، وهو يجود بنفسه فقال ذلك القول، ومعناه ليس البر أن يبلغ الإنسان بنفسه هذا المبلغ، والله قد رخص فى الفطر، والدليل على صحة هذا التأويل صوم رسول الله فى السفر فى شدة الحر، ولو كان إثمًا لكان رسول الله أبعد الناس منه، ومعنى قول النبى، عليه السلام‏:‏ ‏(‏ليس من البر الصوم فى السفر‏)‏‏.‏

أى ليس هو أبر البر، لأنه قد يكون الإفطار أبر منه إذا كان فى حج أو جهاد ليقوى عليه، وهذا كقوله‏:‏ ‏(‏ليس المسكين بالطواف الذى ترده التمرة والتمرتان‏)‏، ومعلوم أن الطواف مسكين، وأنه من أهل الصدقة، وإنما أراد المسكين الشديد المسكنة الذى لا يسأل ولا يتصدق عليه‏.‏

باب لَمْ يَعِبْ أَصْحَابُ النَّبِىِّ، عليه السلام، بَعْضُهُمْ على بَعْض فِى الصَّوْمِ وَالإفْطَارِ

- فيه‏:‏ أَنَسِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ النَّبِىِّ فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ‏)‏‏.‏

هذا حجة على من رغم أن الصائم فى السفر لا يجزئه صومه، لأن تركهم لإنكار الصوم والفطر يدل أن ذلك عندهم من المتعارف المشهور الذى تجب الحجة به، ولا حجة مع أحد فى خلاف السنة الثابتة، فقد ثبت أنه عليه السلام صام فى السفر، ولم يعب على من صام، ولا على من أفطر فوجب التسليم له‏.‏

باب مَنْ أَفْطَرَ لِيَرَاهُ النَّاسُ

- فيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ ‏(‏خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ عُسْفَانَ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَرَفَعَهُ إِلَى فيه، لِيُرِيَهُ النَّاسَ، فَأَفْطَرَ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، وَذَلِكَ فِى رَمَضَانَ، فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ‏:‏ قَدْ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ وَأَفْطَرَ، فَمَنْ شَاءَ صَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ‏.‏

اختلف العلماء فى الفطر المذكور فى هذا الحديث، فقال قوم‏:‏ معناه أنه أصبح مفطرًا قد نوى الفطر فى ليلته، وهذا جائز بإجماع العلماء أن يبيت المسافر الفطر إن اختاره، وقال آخرون‏:‏ معناه أنه أفطر فى نهاره بعد أن قد مضى صدر منه، وأن الصائم جائز له أن يفعل ذلك فى سفره، لأن النبى صنع ذلك رفقًا بأمته، وقد جاء هذا مبينًا فى حديث جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر‏:‏ ‏(‏أن رسول الله خرج إلى مكة عام الفتح فى رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم، فصام الناس وهم مشاة وركبان، فقيل له‏:‏ إن الناس قد شق عليهم الصوم، وإنما ينظرون إلى ما فعلت، فدعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه، وصام بعض، فقيل للنبى، عليه السلام‏:‏ إن بعضهم قد صام، فقال‏:‏ ‏(‏أولئك العصاة‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وهذا الحديث يبين معنى الترجمة، وأنه عليه السلام، إنما أفطر ليراه الناس فيقتدوا به ويفطرون، لأن الصيام قد نهكهم وأضر بهم، فأراد الرفق بهم والتيسير عليهم أخذًا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏، فأخبر تعالى أنه أطلق الإفطار فى السفر إرادة التيسير على عباده، فمن أراد رخصة الله فأفطر فى سفره أو مرضه لم يكن معنفًا، ومن اختار الصوم، وهو يسير عليه فهو له أفضل لصحة الخبر عن النبى أنه صام حين شخص من المدينة متوجهًا إلى مكة حتى بلغ عسفان أو الكديد، وصام معه أصحابه إذ كان ذلك يسيرًا عليهم، وأفطر وأمر أصحابه لما دنا من عدوه، فصار الصوم عسيرًا، إذ كان لا يؤمن عليهم الضعف والوهن فى حربهم لو كانوا صيامًا عند لقاء عدوهم، فكان الإفطار حينئذ أولى بهم من الصوم، وأفضل عند الله لما يرجون من القوة على العدو وإعلاء كلمة الدين بالإفطار، قاله الطبرى، وروى شعبة عن عمرو بن دينار، عن عبيد بن عمير‏:‏ ‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه يوم فتح مكة، فقال‏:‏ أفطروا فإنه يوم قتال‏)‏‏.‏

وروى حماد، عن الجريرى، عن أبى نضرة، عن جابر‏:‏ ‏(‏أن النبى، عليه السلام، كان فى سفر فأتى على غدير فقال للقوم‏:‏ ‏(‏اشربوا‏)‏، فقالوا‏:‏ يا رسول الله، أنشرب ولا تشرب‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏إنى أيسركم، إنى أركب وأنتم مشاة، فشرب وشربوا‏)‏‏.‏

واختلف الفقهاء فى من اختار الصوم فى السرف وأصبح صائمًا ثم أفطر نهارًا من غير عذر، فقال مالك‏:‏ عليه القضاء والكفارة، لأنه كان مخيرًا فى الصوم والفطر، فلما اختار الصوم لزمه ولم يكن له الفطر، وقد روى عنه أنه لا كفارة عليه، وهو قول أصحابه إلا عبد الملك فإنه قال‏:‏ إن أفطر بجماع كَفَّر، لأنه لا يقوى بذلك على سفره ولا عذر له، وقال سائر الفقهاء بالحجاز والعراق‏:‏ أنه لا كفارة عليه، والحجة فى سقوط الكفارة واضحة بحديث ابن عباس وجابر، ومن جهة النظر أيضًا، لأنه متأول غير هاتك لحرمة صومه عند نفسه، وهو مسافر قد دخل فى عموم إباحة الفطر، وقال ابن القابسى‏:‏ هذا الحديث لم يسمعه ابن عباس من النبى، ولكنه يعد من جملة المسند، لأنه لم يروه إلا عن صاحب، وقد انفرد الصحابة بتسليم هذا المعنى لهم وليس لغيرهم، ويذكر عن أنس أنه قال عن الصحابة‏:‏ ‏(‏يروى بعضنا عن بعض، وليس فينا من يكذب‏)‏‏.‏

باب‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ‏}‏ ‏[‏البقرة 184‏]‏

وقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَسَلَمَةُ بْنُ الأكْوَعِ نَسَخَتْهَا‏:‏ ‏(‏شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ‏(‏إلى‏)‏ تَشْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة 185‏]‏‏.‏

وقال ابْنُ أَبِى لَيْلَى‏:‏ حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ‏:‏ نَزَلَ رَمَضَانُ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ مَنْ أَطْعَمَ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا تَرَكَ الصَّوْمَ مِمَّنْ يُطِيقُهُ، وَرُخِّصَ لَهُمْ فِى ذَلِكَ فَنَسَخَتْهَا‏:‏ ‏(‏وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 184‏]‏، فَأُمِرُوا بِالصَّوْمِ‏.‏

- فيه‏:‏ ابْنُ عُمَرَ قَرَأَ‏:‏ ‏(‏فِدْيَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 184‏]‏، قَالَ‏:‏ هِىَ مَنْسُوخَةٌ‏.‏

اختلف العلماء فى تأويل هذه الآية، فروى عن ابن عباس، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومجاهد أنهم قرءوها‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ‏}‏، قال‏:‏ الذين يحملونه ولا يطيقونه فدية، فعلى هذا تكون الآية محكمة غير منسوخة يعنى فى الشيخ والحامل والمرضوع، قال أبو عبيد‏:‏ وهو قول حسن، ولكن الناس ليسوا عليه، لأن الذين ثبت بين اللوحين فى مصاحف أهل الحجاز والشام والعراق‏)‏ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ ‏(‏، ولا تكون الآية على هذا اللفظ إلا منسوخة، روى ذلك عن ابن عباس وسلمة بن الأكوع، وابن عمر، وابن أبى ليلى، وعلقمة، وابن شهاب، فتفرق الناس فى ناسخ هذه الآية ومنسوخها على أربع منازل، لكل واحدة منهن حكم سوى حكم الأخرى، فالفرقة الأولى منهم‏:‏ وهم الأصحاء ففرضهم الصيام لا يجزئهم غيره، لزمهم ذلك بالآية المحكمة، وهى قوله‏:‏ ‏{‏فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏‏.‏

والثانية‏:‏ هم مخيرون بين الإفطار والصيام، ثم عليهم القضاء بعد ذلك ولا إطعام عليهم، وهم المسافرون والمرضى بقوله‏:‏ ‏(‏فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 184‏]‏‏.‏

والثالثة‏:‏ هم الذين لهم الرخصة فى الإطعام ولا قضاء عليهم، وهم الشيوخ الذين لا يطيقون الصيام‏.‏

والرابعة‏:‏ هم الذين اختلف العلماء فيهم بين القضاء والإطعام‏.‏

وبكل ذلك قد جاء تأويل القرآن، وأفتت به الفقهاء، فذهب القاسم، وسالم، وربيعة، ومكحول، ومالك، وأبو ثور إلى أن الشيخ إن استطاع الصوم صام، وإلا فليس عليه شىء لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏ إلا أن مالكًا يستحب له الإطعام عن كل يوم مدا، وحجة هذا القول أن الله تعالى، إنما أوجب الفدية قبل النسخ على المطيقين دون غيرهم، وخيرهم فيه بين أن يصوموا بقوله‏:‏ ‏(‏وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ ‏(‏ثم نسخ ذلك وألزمهم الصوم حتمًا، وسكت عمن لا يطيق فلم يذكره فى الآية، فصار فرض الصيام زائلاً عنهم كما زال فرض الزكاة والحج عن المعدمين الذين لا يجدون إليها سبيلاً، وأبى ذلك أهل العراق، والثورى، وأوجبوا الفدية على الشيخ، وقالوا‏:‏ إن الزكاة والحج لا يشبهان الصيام، لأن الكتاب والسنة فرق بينهما، وذلك أن الله تعالى، جعل من الصوم بدلا أوجبه على كل من حيل بينه وبين الصيام وهو الفدية، كما جعل التيمم بدلا من الطهور واجبًا على كل من أعوزه الماء، وكما جعل الإيماء بدلا من الركوع والسجود لمن لا يقدر عليهما، ولم يجعل من الزكاة والحج بدلا لمن لا يقدر عليهما، وإلى هذا ذهب الكوفيون، والأوزاعى، والشافعى‏.‏

وأما الفرقة الرابعة‏:‏ فالحوامل والمراضع، وفيهن اختلف الناس قديمًا وحديثًا، فقال بعض العلماء‏:‏ إذا ضعفن عن الصيام وخافت على نفسها وولدها أفطرت وأطعمت عن كل يوم مسكينًا، فإذا فطمت ولدها قضته، وهو قول مجاهد، وبه قال الشافعى وأحمد، وقال آخرون‏:‏ عليهما الإطعام ولا قضاء، وهو قول ابن عباس، وابن عمر، وسعيد بن جبير، وقال آخرون‏:‏ عليهما القضاء ولا إطعام عليهما، وجعلوهما بمنزلة المريض، وهو قول عطاء، والنخعى، والحسن، والزهرى، وربيعة، والأوزاعى، وأبى حنيفة، والثورى، وروى ابن عبد الحكم عن مالك مثله، ذكره ابن القصار، وهو قول أشهب، وفرقة رابعة فرقت بين الحبلى، والمرضع فقال فى الحبلى‏:‏ هى بمنزلة المريض تفطر وتقضى ولا إطعام عليها، والمرضع تفطر وتطعم وتقضى، هذا قول مالك فى المدونة، وهو قول الليث‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ وكل هؤلاء إنما تأولوا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ ‏(‏فمن أوجب القضاء والإطعام معًا ذهب إلى أن الله حكم فى تارك الصوم من عذر بحكمين، فجعل الفدية فى آية والقضاء فى أخرى، فلما لم يجد ذكر الحامل والمرضع مسمى فى واحدة منهما جمعهما جميعًا عليهما احتياطًا لهما وأخذًا بالثقة، وأما الذين رأوا أن يطعما ولا يقضيا فإنهم أرادوا أنهما ليستا من السفر ولا من المرضى الذين فرهم القضاء، ولكنهما ممن كلف الصيام وطوقه وليس بمطيق، فهم من أهل الفدية لا يلزمهم سواها لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 248‏]‏، وهى قراءة ابن عباس وفتياه، وقد يجوز هذا القول على قراءة من قرأ‏:‏ ‏(‏وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ ‏(‏أى يطيقونه بجهد ومشقة، ويكون معنى القراءتين واحدًا‏.‏

قاله غير أبى عبيد‏.‏

وأما الذين أوجبوا عليهما القضاء بلا طعام ذهبوا إلى أن الحمل والرضاع علتان من العلل، لأنه يخاف فيهما من التلف على الأنفس ما يخاف من المرض، قال أبو عبيد، وقد وجدنا شاهدًا لهذا القول ودليلا عليه، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا أيوب، قال‏:‏ حدثنى أبو قلابة، عن أنس بن مالك قال‏:‏ ‏(‏أتيت النبى، عليه السلام، فى إبل لجار لى، أخذت، فوافقته يأكل فدعانى إلى طعامه فقلت‏:‏ إنى صائم، قال‏:‏ ادن أخبرك عن ذلك، إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة، وعن الحامل والمرضع‏)‏، قال أبو عبيد‏:‏ فقرن رسول الله الحامل والمرضع بالمسافر، وجعلهما معًا فى معنى واحد، فصار حكمهما كحكمه، فهل على المسافر إلا القضاء لا يعدوه إلى غيره‏.‏

باب مَتَى يُقْضَى قَضَاءُ رَمَضَان

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ لا بَأْسَ أَنْ يُفَرَّقَ لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ‏}‏‏.‏

وقال ابْنُ الْمُسَيَّبِ فِى صَوْمِ الْعَشْرِ‏:‏ لا يَصْلُحُ حَتَّى يَبْدَأَ بصوم بِرَمَضَانَ‏.‏

وقال إِبْرَاهِيمُ‏:‏ إِذَا فَرَّطَ حَتَّى جَاءَ رَمَضَانُ آخَرُ يَصُومُهُمَا، وَلَمْ يَرَ عَلَيْهِ طَعَامًا، وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ مُرْسَلا وَابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ أَنَّهُ يُطْعِمُ، وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ الإطْعَامَ، إِنَّمَا قَالَ‏:‏ ‏(‏فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ‏}‏‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ‏:‏ ‏(‏كَانَ يَكُونُ عَلَىَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِىَ إِلا فِى شَعْبَانَ‏)‏، قَالَ يَحْيَى‏:‏ الشُّغْلُ مِنَ النَّبِىِّ، عليه السلام، أَوْ بِالنَّبِىِّ‏.‏

إنما حمل عائشة على قضاء رمضان فى شعبان الأخذ بالرخصة والتوسعة، لأن ما بين رمضان عامها ورمضان العام المقبل وقت للقضاء، كما أن وقت الصلاة له طرفان، ومثله قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏ليس التفريط فى النوم، إنما التفريط فى اليقظة‏)‏، على من لم يصل الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى، وأجمع أهل العلم على أن من قضى ما عليه من رمضان فى شعبان بعده أنه مؤد لفرضه غير مفرط‏.‏

واختلفوا هل يجوز أن يقضى رمضان متفرقًا فقال طائفة‏:‏ لا يقضيه إلا متتابعًا، روى ذلك عن على بن أبى طالب، وابن عمر، وعائشة، وهو قول الحسن البصرى، والنخعى، وعروة بن الزبير، وهو قول أهل الظاهر، وقالت طائفة‏:‏ يجوز أن يقضى متفرقًا، روى ذلك عن ابن عباس، وأبى هريرة، وأنس بن مالك، ومعاذ، وحذيفة، وهو قول جماعة أئمة الأمصار، قال ابن القصار‏:‏ وحجة الجماعة ظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ‏(‏ولم يخص، فعلى أى وجه قضاه جاز، هذا مقتضى اللفظ، فإن قيل‏:‏ فإن عائشة قالت‏:‏ نزلت‏)‏ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ‏(‏متتابعات، فسقطت متتابعات، قيل‏:‏ قد أخبرت أنها ساقطة، فلا حكم لها حتى تثبت القراءة، وهذه حجة لنا‏.‏

واختلفوا فى المسافر والمريض إذا فرطا فى قضاء رمضان حتى جاء رمضان آخر، فروى عن أبى هريرة، وابن عباس أنه يصوم الذى حصل فيه، فإذا خرج قضى ما كان عليه وعليه الفدية، وهو قول عطاء، والقاسم، والزهرى، ومالك، والأوزاعى، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ ليس عليه إلا القضاء فقط ولا إطعام عليه، وحجة من قال بالإطعام ما حكاه الطحاوى عن يحيى بن أكثم قال‏:‏ فتشت عن أقاويل الصحابة فى هذه المسألة فوجدت عن ستة منهم قالوا‏:‏ عليه القضاء والفدية، ولم أجد لهم مخالفًا، فإن قيل‏:‏ فقد قال عليه السلام للواطئ فى رمضان‏:‏ ‏(‏اقض يومًا مكانه‏)‏، ولم يذكر له حَدا، قيل‏:‏ قد قامت الدلالة على الحَدِّ من تأخير عائشة له إلى شعبان، فعلم أنه الوقت المضيق، فإذا ثبت أن للقضاء وقتًا يؤدى فيه ويفوت، ثبتت الفدية، لأنه يشبه الحج الذى يفوت وقته، ألا ترى أن حجة القضاء إذا دخل وقتها وفاتت وجب الدم، فكذلك إّا فات الصوم وجبت الفدية‏.‏

واختلفوا فيما يجب عليه إن لم يصح من مرضه حتى دخل رمضأن المقبل، فقال ابن عباس، وابن عمر، وسعيد بن جبير‏:‏ يصوم الثانى ويطعم عن الأول ولا قضاء عليه، وقال الحسن، والنخعى، وطاوس، ومالك، والأوزاعى، وأبو حنيفة، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق‏:‏ يصوم الثانى، ويقضى الأول، ولا فدية عليه، لأنه لم يفرط‏.‏

باب الْحَائِضِ تَتْرُكُ الصَّوْمَ وَالصَّلاةَ

وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ‏:‏ إِنَّ السُّنَنَ وَوُجُوهَ الْحَقِّ لَتَأْتِى كَثِيرًا عَلَى خِلافِ الرَّأْيِ، فَلا يَجِدُ الْمُسْلِمُونَ بُدًّا مِنِ اتِّبَاعِهَا، مِنْ ذَلِكَ‏:‏ أَنَّ الْحَائِضَ تَقْضِى الصِّيَامَ، وَلا تَقْضِى الصَّلاةَ‏.‏

- فيه‏:‏ أَبِو سَعِيدٍ قَالَ النَّبىُّ، عليه السلام‏:‏ ‏(‏أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ، فَذَلِكَ نُقْصَانُ دِينِهَا‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ هذا الحديث أصل لترك الحائض الصوم والصلاة، وفيه من الفقه أن للمريض ترك الصيام، وإن كان فيه بعض القوة إذا كان يدخل عليه المشقة والخوف، ألا ترى أن الحائض ليست تضعف عن الصيام ضعفًا واحدًا، وإنما يشق عليها بعض المشقة من أجل نزف دمها، وضعف النفس عند خروج الدم معلوم ذلك من عادة اليسير فغلبت على كل النساء، وفى جميع الأحوال، رحمةً من الله، ورعفًا لقليل الحرج وكثيره، وأمرت بإعادة الصيام من قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا ‏(‏ونزف الدم مرض‏)‏ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ‏(‏، ولم تؤمر بإعادة الصلاة، لأنها أكبر الفرائض وأكثرها ترددًا، ولما يلزم من المحافظة على وضوئها والقيام إليها، وإحضار النية للمناجاة، كما شهد الله تعالى لذلك بقوله‏:‏ ‏(‏وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 45‏]‏، وهى التى حطها الله فى أصل الفرض من خمسين إلأى خمس، فلو أمرت بإعادة الصلوات لتضاعف عليها الفرض، إذ المرأة نصف دهرها أو نحوه حائض، فكان الناس يصلون صلاة واحدة وتصلى هى فى كل صلاة صلاتين، فتختلف أحوال النساء والرجال، والله أعلم‏.‏

واختلفوا فى المرأة تطهر من حيضتها فى بعض النهار، والمسافر يقدم، والمريض يبرأ، فقال أبو حنيفة والأوزاعى، وأحمد، وإسحاق‏:‏ يلزمهم كلهم الإمساك بقية النهار، وإن قدم المسافر مفطرًا فلا يطأ زوجته لتعظيم حرمة الشهر، وقال مالك، والشافعى، وأبو ثور‏:‏ يأكلون بقية يومهم، وللمسافر المفطر يقدم أن يطأ زوجته إذا وجدها قد طهرت من حيضتها، واحتج الأولون بقوله عليه السلام، يوم عاشوراء‏:‏ ‏(‏من أكل فليمسك بقية نهاره‏)‏‏.‏

فأمرهم بالإمساك مع الفطر، وهذا المعنى موجود فى الإقامة الطارئة فى بعض النهار قال ابن القصار‏:‏ والحجة لمالك، والشافعى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 184‏]‏، وهؤلاء قد أفطروا فحكم الإفطار لهم باق، والفطر رخصة للمسافر، ومن تمام الرخصة ألا يجب عليه أكثر من يوم، فلو أمرناه أن يمسك بعد ذلك ثم يصوم يومًا آخر مكانه، كنا قد منعناه من الرخصة، وأوجبنا عليه فى ترك اليوم أكثر من يوم والله إنما قال‏:‏ ‏(‏فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ‏(‏، وكذلك الحائض كان يلزمها أكثر من يوم، وإنما يلزم الصيام من يصح منه الصيام الذى لا يجب معه قضاء، وأما صوم يوم عاشوراء فإنما لزمهم صومه من الوقت الذى خوطبوا فيه، ولم يجب عليهم الابتداء، لأنهم لم يعلموا ذلك إلا وقت قيل لهم، وأيضًا فإنهم متطوعون، وأمره بالإمساك لهم كان مستحبًا، فلا يلزم الاعتراض به‏.‏

باب مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ

وَقَالَ الْحَسَنُ‏:‏ إِنْ صَامَ عَنْهُ ثَلاثُونَ رَجُلا يَوْمًا وَاحِدًا جَازَ‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ أَنَّ النبى، عليه السلام، قَالَ‏:‏ ‏(‏مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوم صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ، عليه السلام، فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّى مَاتَتْ، وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ، أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏نَعَمْ، فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى‏)‏‏.‏

وروى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏(‏أن امرأة جاءت إلى النبى، عليه السلام، فَقَالتْ‏:‏ إِنَّ أُخْتِى مَاتَتْ‏)‏‏.‏

وقال أيضًا‏:‏ ‏(‏إِنَّ أُمِّى مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ‏)‏‏.‏

قَالَ أيضًا‏:‏ ‏(‏إنَّ أُمِّى مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فيمن عليه صوم من شهر رمضان فمات قبل أن يقضيه، فقالت طائفة‏:‏ جائز أن يصام عن الميت، وهو قول طاوس، والحسن، والزهرى، وقتادة، وبه قال أبو ثور، وأهل الظاهر، واحتجوا بهذه الأحاديث التى ذكرها البخارى‏.‏

وقال أحمد بن حنبل‏:‏ يصوم عنه وليّه فى النذر، ويطعم عنه فى قضاء رمضان، وذكر ابن وهب عن الليث أنه يصوم عنه وليه فى النذر، وقال ابن عمر، وابن عباس، وعائشة‏:‏ لا يصوم أحدٌ عن أحدٍ، وهو قول مالك، وأبى حنيفة، والشافعى، وحجة هؤلاء أن ابن عباس لم يخالف بفتواه ما رواه إلا لنسخٍ علمه، وكذلك روى عبد العزيز بن رفيع، عن عمرة، عن عائشة أنها قالت‏:‏ ‏(‏يطعم عنه فى قضاء رمضان ولا يصام عنه‏)‏ ولهذا قال أحمد بن حنبل‏:‏ إن معنى حديث ابن عباس فى النذر دون قضاء رمضان من أجل فتيا ابن عباس، وقد ذكر ذلك البخارى فى بعض طرق الحديث فى هذا الباب، وقال أبو داود فى حديث عائشة‏:‏ معناه فى النذر‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ ومعنى الأحاديث التى احتجوا بها عندنا أن يفعل عنه وليه ما يقوم مقام الصيام، وهو الإطعام، ويستحب لهم فيصيرون كأنهم صاموا عنه‏.‏

قال المهلب‏:‏ ولو جاز أن يقضى عمل البدن عن ميت قد فاته لجاز أن يصلى الناس عن الناس، ويؤمنون عنهم ولو كان سائغًا لكان رسول الله أحرص الناس أن يؤمن عن عمه أبى طالب لحرصه على إدخاله فى الإسلام، والإيمان من عمل القلب، والقلب عضو من أعضاء البدن اللازم لها الأعمال، وقد أجمعت الأمة على أنه لا يؤمن أحد عن أحد، ولا يصلى أحد عن أحد‏.‏

واختلفوا فى الصوم والحج، فيجب أن يرد حكم ما اختلف فيه إلى ما اتفق عليه، قال ابن القصار‏:‏ ولما لم يجز الصيام عن الشيخ الكبير فى حياته كان بعد الموت أولى من أن لا يجوز، وذهب الكوفيون والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور إلى أنه واجب أن يطعم عنه من رأس ماله وإن لم يوص، إلا أبا حنيفة فإنه قال‏:‏ يُسْقِطُ عنه ذلك الموت، وقال مالك‏:‏ الإطعام غير واجب على الورثة إلا أن يوصى بذلك إليهم فيكون فى ثلثه، فإن قال من أوجب الإطعام أن النبى، عليه السلام، شبهه بالدين قيل‏:‏ هو حجة لنا، لأنه قال‏:‏ ‏(‏أفأقضيه عنها‏؟‏‏)‏ ونحن نقول‏:‏ قضاؤه أن يطعم عن كل يوم مسكينًا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏أرأيت لو كان عليها دين أكنت قاضيه‏؟‏‏)‏، إنما سأله هل كنت تفعل ذلك تطوعًا، لأنه لا يجب عليه أن يقضى دين أمه إذا لم يكنه لها تركة‏.‏

باب مَتَى يَحِلُّ فِطْرُ الصَّائِمِ

وَأَفْطَرَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىُّ حِينَ غَابَ قُرْصُ الشَّمْسِ‏.‏

- فيه‏:‏ عُمَرَ، قَالَ‏:‏ قَالَ عليه السلام‏:‏ ‏(‏إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا، وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنِ أَبِى أَوْفَى‏:‏ كُنَّا مَعَ النبى فِى سَفَرٍ، وَهُوَ صَائِمٌ فَلَمَّا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، قَالَ لِبَعْضِ الْقَوْمِ‏:‏ ‏(‏يَا فُلانُ، قُمْ فَاجْدَحْ لَنَا‏)‏، فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَمْسَيْتَ، قَالَها ثلاثًا، فَنَزَلَ فَجَدَحَ لَهُ، فَشَرِبَ ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏(‏إِذَا رَأَيْتُمُ اللَّيْلَ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ هَاهُنَا، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ‏)‏‏.‏

وترجم لحديث ابن أبى أوفى قال‏:‏ يفطر بما تيسر بالماء وغيره‏.‏

وقال المؤلف‏:‏ أجمع العلماء أنه إذا غربت الشمس فقد حل فطر الصائم، وذلك آخر النهار وأول أوقات الليل، قال الطبرى‏:‏ إن قال قائل‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏فقد أفطر الصائم‏)‏ أَعَزْمٌ من النبى على الصائم أن يفطر عند إقبال الليل أم ندب‏؟‏ قيل‏:‏ هو عزم عليه أن يكون معتقدًا أنه مفطر وأن وقت صومه قد انقضى، غير عزم عليه أن يأكل أو يشرب‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ وما الدليل على ذلك‏؟‏ قيل‏:‏ إجماع الجميع من أهل العلم على أن المرء قد يكون مفطرًا بترك العزم على الصوم من الليل مع تركه نية الصوم نهاره أجمع، وإن لم يأكل ولم يشرب، وكان معلومًا بذلك أن اعتقاد المعتقد بعد انقضاء وقت الصوم للإفطار وترك الصوم‏.‏

وإن لم يفعل شيئًا مما أبيح للمفطر فعله، موجب له اسم المفطر، إذا كان ذلك كذلك، وكان الجميع مجمعين على أن الأكل والشرب غير فرض على الصائم فى ذلك الوقت مع إجماعهم أن وقت الصوم قد انقضى بمجىء الليل وإدبار النهار، كان بينا أن معنى أمره بالإفطار فى تلك الحال إنما هو أمر عزم منه على ما وصفنا‏.‏

فإن قيل‏:‏ فإذا كان كما ذكرت من أنه معنى به العزم على اعتقاد الإفطار وترك العزم على الصوم، فما أنت قائل فى ما روى عنه عليه السلام أنه كان يواصل‏؟‏ قيل‏:‏ كان وصاله من السحر إلى السحر، ولعله كان ذلك توخيًا منه للنشاط على قيام الليل، فإنه كان إذا دخل العشر شد مئزره، ورفع فراشه، لأن الطعام مثقل للبدن، مفتر عن الصلاة، مجتلب للنوم، فكان يؤخر الإصابة من الطعام إلى السحر، إذ كان الله قد أعطاه من القوة على تأخير ذلك إلى ذلك الوقت والصبر عنه ما لم يعط غيره من أمته، وقد بين لهم ذلك بقوله‏:‏ ‏(‏إنى لست كهيئتكم إنى أظل يطعمنى ربى ويسقينى‏)‏‏.‏

فأما الصوم ليلاً فلا معنى له، لأنه غير وقت للصوم، لقوله‏:‏ ‏(‏إذا غربت الشمس فقد أفطر الصائم‏)‏، أى حل وقت فطره على ما تقدم، وسيأتى فى باب ‏(‏الوصال‏)‏ من فعله من السلف، ومن كرهه، وتمام الكلام فيه، إن شاء الله‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏فاجدح لنا، قال‏:‏ يا رسول الله لو أمسيت، ثلاثًا‏)‏، فيه من الفقه أن الناس سراع إلى إنكار ما يجهلون، كما فعل خادم النبى، عليه السلام، حين توقف عن إنقاذ أمره لما جهله من الدليل الذى علمه النبى، عليه السلام، وفيه أن الجاهل بالشىء ينبغى أن يسمح له فيه المرة والثانية، وتكون الثالثة فاصلة بينه وبين معلمه، كما فعل النبى، عليه السلام، حين دعا عليه بالويل لكثرة التغيير، وكذلك فعل الخضر بموسى فى الثالثة قال له‏:‏ ‏(‏هَذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 78‏]‏، وذلك كان شرط موسى لنفسه بقوله‏:‏ ‏(‏إِن سَأَلْتُكَ عَن شَىْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِى‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 76‏]‏‏.‏

باب تَعْجِيلِ الإفْطَارِ

- فيه‏:‏ سَهْلِ، قَالَ عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنِ أَبِى أَوْفَى، قَالَ‏:‏ ‏(‏كُنْتُ مَعَ النَّبِىِّ، عليه السلام، فِى سَفَرٍ، فَصَامَ حَتَّى أَمْسَى، قَالَ لِرَجُلٍ‏:‏ ‏(‏انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي‏)‏، قَالَ‏:‏ لَوِ انْتَظَرْتَ حَتَّى نُمْسِيَ، قَالَ‏:‏ ‏(‏فانْزِلْ فَاجْدَحْ لِى، إِذَا رَأَيْتَ اللَّيْلَ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ هَاهُنَا، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ إنما حض عليه السلام على تعجيل الفطر لئلا يزاد فى النهار ساعة من الليل، فيكون ذلك زيادة فى فروض الله، ولأن ذلك أرفق بالصائم وأقوى له على الصيام، وقد روى محمد بن عمرو، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة، قال‏:‏ قال رسول الله‏:‏ ‏(‏لا يزال الدين ظاهرًا ما عجل الناس الفطر لأن اليهود يؤخرون‏)‏‏.‏

وقال عمرو بن ميمون الأودى‏:‏ كان أصحاب محمد أسرع الناس فطرًا، وأبطأهم سحورًا‏.‏

وقال سعيد بن المسيب‏:‏ كتب عمر إلى أمراء الأجناد‏:‏ لا تكونوا مسبوقين بفطركم، ولا منتظرين لصلاتكم اشتباك النجوم، وروى عبد الرزاق عن ابن جريج، قال‏:‏ ‏(‏سمعت عروة بن عياض يخبر عبد العزيز بن عبد الله أنه يؤمر أن يفطر قبل أن يصلى ولو على حسوة‏)‏‏.‏

وروى أيضًا عبد الرزاق عن صاحب له، عن عوف، عن أبى رجاء قال‏:‏ ‏(‏كنت أشهد ابن عباس عند الفطر فى رمضان، فكان يوضع له طعامه، ثم يأمر مراقبًا يراقب الشمس، فإذا قال‏:‏ قد وجبت، قال‏:‏ كلوا، ثم قال‏:‏ كنا نفطر قبل الصلاة‏)‏، وليس ما رواه مالك فى الموطأ، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن‏:‏ ‏(‏أن عمر وعثمان كانا يصليان المغرب حين ينظران إلى الليل الأسود قبل أن يفطرا، ويفطران بعد الصلاة‏)‏، بمخالف لما روى من تعجيل الفطر، لأنهما إنما كانا يراعيان أمر الصلاة، وكانا يعجلان الفطر بعدها من غير كثرة تنقل، لما جاء من تعجيل الفطر، ذكره الداودى‏.‏

باب إِذَا أَفْطَرَ فِى رَمَضَانَ ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ

- فيه‏:‏ أَسْمَاءَ، قَالَتْ‏:‏ ‏(‏أَفْطَرْنَا عَلَى عَهْدِ رسول الله يَوْمَ غَيْمٍ، ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ‏)‏، قِيلَ لِهِشَامٍ بن عروة‏:‏ فَأُمِرُوا بِالْقَضَاءِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ بُدَّ مِنْ القَضَاءٍ‏؟‏ وَقَالَ مَعْمَرٌ‏:‏ سَمِعْتُ هِشَامًا، لا أَدْرِى أَقَضَوْا أَمْ لا‏.‏

جمهور العلماء يقولون بالقضاء فى هذه المسألة، وقد روى ذلك عن عمر بن الخطاب من رواية أهل الحجاز وأهل العراق، فأما رواية أهل الحجاز، فروى ابن جريج، عن زيد بن أسلم، عن أبيه قال‏:‏ ‏(‏أفطر الناس فى شهر رمضان فى يوم غيم ثم طلعت الشمس، فقال عمر‏:‏ الخطب يسير وقد اجتهدنا، نقضى يومًا‏)‏، هكذا قال ابن جريج عن زيد بن أسلم، عن أبيه، وهو متصل‏.‏

ورواية مالك فى الموطأ عن زيد بن أسلم، عن أخيه أن عمر‏.‏

وهى مرسلة، لأن خالد ابن أسلم أخا زيد لم يدرك عمر، وأما رواية أهل العراق، فروى الثورى، عن جبلة بن سحيم بن حنظلة، عن أبيه أنه شهد عمر، فذكر القصة، وقال‏:‏ ‏(‏يا هؤلاء، من كان أفطر فإن قضاء يوم يسير‏)‏، وجاء رواية أخرى عن عمر أنه قال‏:‏ ‏(‏لا قضاء عليه‏)‏‏.‏

روى معمر، عن الأعمش، عن زيد بن أسلم قال‏:‏ ‏'‏ أفطر الناس في زمن عمر، فطلعت، فطلعت الشمس فشق ذلك على‏)‏ الناس فقالوا‏:‏ نقضي هذا اليوم‏؟‏ ‏[‏فقال عمر‏]‏‏:‏ ولم نقضي‏؟‏ والله ما تجانفنا الإثم ‏'‏‏.‏

والرواية الأولى أولى بالصواب، وقد روى القضاء عن ابن عباس ومعاوية، وهو قول عطاء، ومجاهد، والزهرى، ومالك، والثورى، وأبى حنيفة، والشافعى، وأحمد، وأبى ثور، وقال الحسن البصرى‏:‏ لا قضاء عليه كالناسى، وهو قول إسحاق وأهل الظاهر‏.‏

وحجة من أوجب القضاء إجماع العلماء أنه لو غم هلال رمضان فأفطروا، ثم قامت البينة برؤية الهلال أن عليهم القضاء بعد إتمام صيام يومهم، وقال المهلب‏:‏ ومن حجتهم أيضًا قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏، ومن أفطر ثم طلعت الشمس فلم يتم الصيام إلى الليل كما أمره الله فعليه القضاء من أيام أخر بنص كتاب الله‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ يحتمل ما روى عن عمر أنه قال‏:‏ ‏(‏لا نقضى، والله ما تجانفنا الإثم‏)‏، أن يكون ترك القضاء إذا لم يعلم ووقع الفطر على الشك، وتكون الرواية عنه بثبوت القضاء إذا وقع الفطر فى النهار بغير شك‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وقد ذكرنا فى مسألة الذى يأكل وهو يشك فى الفجر من جعله بمنزلة من أكل وهو يشك فى غروب الشمس، ومن فرق بين ذلك فى باب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكُلُوا وَاشْرَبُوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏ الآية، وفرق ابن حبيب بين من أكل وهو يشك فى الفجر وبين من أكل وهو يشك فى غروب الشمس، وأوجب القضاء للشاك فى غروب الشمس، واحتج بأن الأصل بقاء النهار، فلا يأكل حتى يوقن بالغروب، والأصل فى الفجر بقاء الليل، فلا يمسك عن الأكل حتى يوقن بالنهار، وبهذا قال المخالفون لمالك فى هذا الباب‏.‏

باب صَوْمِ الصِّبْيَان

وَقَالَ عُمَرُ لِنَشْوَانٍ فِى رَمَضَانَ‏:‏ وَيْلَكَ، صِبْيَانُنَا صِيَامٌ، فَضَرَبَهُ‏.‏

- فيه‏:‏ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ، قَالَتْ‏:‏ أَرْسَلَ النَّبِىُّ، عليه السلام، غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الأنْصَارِ‏:‏ ‏(‏مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَليَصُمْ، قَالَتْ‏:‏ فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ، وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا، وَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الإفْطَارِ‏)‏‏.‏

أجمع العلماء أنه لا تلزم العبادات والفرائض إلا عند البلوغ، إلا أن كثيرًا من العلماء استحبوا أن يدرب الصبيان على الصيام والعبادات رجاء بركتها لهم، وليعتادوها، وتسهل عليهم إذا لزمتهم، قال المهلب‏:‏ وفى هذا الحديث من الفقه أن من حمل صبيا على طاعة الله ودربه على التزام شرائعه فإنه مأجور بذلك، وأن المشقة التى تلزم الصبيان فى ذلك غير محاسب بها من حملهم عليها‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ واختلفوا فى الوقت الذى يؤمر فيه الصبيان بالصيام، فكان الحسن، وابن سيرين، وعروة، وعطاء، والزهرى، وقتادة، والشافعى يقولون‏:‏ يؤمر به إذا أطاقه، وقال الأوزاعى‏:‏ إذا أطاق صوم ثلاثة أيام تباعًا لا يخور فيهن ولا يضعف حمل على صوم رمضان، واحتج بحديث ابن أبى لبيبة عن أبيه، عن جده، عن النبى، عليه السلام، أنه قال‏:‏ ‏(‏إذا صام الغلام ثلاثة أيام متتابعة فقد وجب عليه صيام شهر رمضان‏)‏، وقال إسحاق‏:‏ إذا بلغ ثنتى عشرة سنة أحببت له أن يتكلف الصيام للعادة، وقال ابن الماجشون‏:‏ إذا أطاقوا الصيام ألزموه، فإن أفطروا لغير عذر ولا علة فعليهم القضاء‏.‏

وقال أشهب‏:‏ يستحب لهم إذا أطاقوه‏.‏